محاولة اغتيال الإمام
عندما عاد الإمام أحمد من روما بعد علاجه طلب من إدارة الكلية أن تتحرك إلى الحديدة لأنه سيأتي لزيارتها ، ويشاهد طلبة الكلية خلال قيامهم بالقفز بالمظلات ، ونفذنا التوجيهات ليلة عيد الفطر في سنة 1961م، وتحركنا في ثلاث سيارات "فرجو" من صنعاء إلى الحديدة مع مدير الكلية والضباط والمعلمين الروس عن طريق نقيل -يسلح- المصنعة - الحديدة، وبهذه السرعة في الحركة وصلنا الحديدة لكي نقفز بالمظلات وهذا يدل على كفاءة الطلاب ومهارتهم العسكرية، ونزلنا في بستان اسمه بستان البدر "دار الضيافة" الذي أصبح فيما بعد نادي الضباط.
وبعد وصولنا بعدة أيام قمنا بالتدريب وهبطنا بالمظلات ونجحنا بامتياز، وكانت منطقة التدريب شمال الحديدة بحوالي خمسة كيلو مترات، وفي المساء، وكنت ضابط نوبتجي "مستلم" سمعت بحادثة محاولة اغتيال الامام أحمد في مستشفى الحديدة، وكنت وقت الحادث في دار الضيافة والزملاء غير موجودين في مقر الإقامة.
وحينما عاد الزملاء وقد سمعوا بالحادث وإطلاق النار على الإمام في مستشفى الحديدة من اللقية والعلفي والهندوانة، وانتشر الخبر، وتمكن الناس من معرفة الحادث في وقت قصير، لأن أهل الحديدة يعرفون أن الإمام موجود فيها وهم في يقظة ، ويتساءلون أين ذهب الإمام؟ من دخل عند الإمام؟ من خرج من عند الإمام؟ ومن ثم أصبح الحادث معروفاً لدى معظم أبناء البلدة.
وبعد عودة الطلاب إلى مقرهم جرى حوار بين عدد من الزملاء الواعين بأن العمل الفردي لن يوصل الأمور إلى نتيجة، ولن يحقق لليمن شيئاً وهو وإن كان عملاً انتحارياً وطنياً إلا أنه قفز نحو المجهول، ويجب التفكير في تنظيم لقيام حركة وطنية كاملة تحقق النجاح المطلوب وتنهي الحكم الأمامي ، لأن المحاولات السابقة غير مجدية ، كان هذا الحوار في الحديدة وفي صنعاء عقدت اجتماعات تنظيمية من عدد من الضباط الزملاء في بيت عبدالله المؤيد وغيره من الضباط الأحرار ، وكان لديهم التفكير نفسه للعمل التنظيمي والتخلص من الحكم الإمامي ، هذا الحوار تكلمنا عنه بصورة تلقائية كرد فعل للحدث بأن الحدث لا بد له من رد فعل للهدف نفسه
وكان الحديث بحضور الإخوة : محمد الديلمي وعلي قاسم المؤيد من الضباط الإداريين، ومن الطلبة يحيى المتوكل ، علي عبدالقادر، أحمد الفقيه ، عبدالله الراعي، عبدالرحمن المحبشي ، حسين المسوري، محمد الوادعي ، ورأى الجميع أن حادثة اغتيال الإمام عمل انتحاري لن يحقق إنهاء الحكم الإمامي، وكان رد الفعل البديهي والطبيعي عندما تفشل العملية سيتم اعتقال الذين قاموا بالعملية، وتمت المراجعة والحوار حول الحادث وجرى البحث والتفكير في الشيء الجديد، وهو العمل المنظم الذي ينهي نظام الإمامة المتخلف، ونحن شباب متطلعون إلى إنقاذ البلاد من الحكم الإمامي المتخلف، تناقشنا حول قيام تنظيم يحقق الآمال والطموحات بعمل سياسي وعسكري ويجري من خلاله الإعداد لقيام ثورة، لأن العمل الفردي ليس مجدياً ، وربما قد بادر إلى فكرة قيام التنظيم عدد من الإخوة الضباط في صنعاء، وربما كان الأخ علي قاسم المؤيد مطلعاً ومشاركاً في تلك الاجتماعات التي كنا لا نعرفها في ذلك الوقت.
بعد الأحداث من 1948م إلى 1961م وما ترتب عليها من نكسات للحركة الوطنية أصبح التفكير للاستفادة من الحركات السابقة ودراسة إخفاقها لكي لا تتكرر حادثة الثلايا في عام 1955م في تعز ، وكانت عملية طارئة ذهب ضحيتها عدد من الرجال الأفذاذ في مقدمتهم الشهيد أحمد يحيى الثلايا ومحمد عبدالقادر وأحمد الدفعي وأحمد الجناتي وغرهم، ونجا من الإعدام شيخ الإسلام وعالم اليمن الكبير القاضي عبدالرحمن الإرياني واللواء حسين الغفاري، وكذلك الحركات الفردية التي أخفقت ، ومنها محاولة اغتيال الإمام أحمد في الحديدة.
ولهذا كان قرار الضباط هو ضرورة إعداد تنظيم كامل بخلاياه، بقواعده، بأسلحة ، بذخيرته ، برجاله ، بدباباته، للقيام بعمل وطني يستفيد من التجارب السابقة ومن المرارات السابقة ومن دماء الشهداء التي أوصلتنا إلى التفكير بصنع هذه الحدث الكبير، واستوعب أولئك الرجال الأفذاذ ضباط الثورة" الضباط الأحرار" التجارب السابقة واستفادوا منها في إعداد أنفسهم للقيام بالتنظيم للقيام بثورة تطيح بالنظام الإمامي إلى الأبد.
العودة إلى صنعاء
بعد الانتهاء من مهمتنا عدنا إلى صنعاء فوجدنا زملاءنا " في الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة" ولديهم التفكير نفسه،ربما من وقت مبكر.
بعد تخرجنا، ونيلنا استحقاقنا في الرتب العسكرية بدرجة ملازم ثانٍ تقرر التحاقنا بمدرسة الأسلحة، لعقد دورات تخصصية في جميع أجنحة الأسلحة : مدفعية ، دبابات .. إلخ، وحينما أقول عن تنظيم الضباط بأنه تفكير جماعي تكون من خلالهم وتطور تدريجياً بتكوين الخلايا وتنظيمها فلأن الحدث الكبير الذي حرك الجميع هو محاولة اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحديدة، التي قام بها ثلاثة من الضباط يتميزون بالثقافة ومتابعة الأحداث والاطلاع ، وكانت لديهم روح وطنية رافضة للنظام الأمامي الذي تسبب في تخلف اليمن والذي قتل الأحرار في 1948م و1955م و1959م، ولا داعي للإسهاب في شرح مآسي النظام الأمامي، لأنه تاريخ معروف بظلمه وتخلفه وبطشه . ومحاولة اغتيال الإمام تركت رد فعل مؤلماً وترسخ في تفكير الضباط في تعز وصنعاء والحديدة أن التنظيم هو الوسيلة لإنهاء نظام الإمامة، وأن الأعمال الفردية والمرتجلة أثبتت - كل المحاولات وما تلاها- أنها لن تحقق الغاية لدى الشعب اليمني المتطلع إلى التغيير الذي يحقق أهدافه في الحرية والكرامة والتطور والتقدم والازدهار.
التحقت بمدرسة الأسلحة جناح المدفعية ، وكان قائد الجناح الأخ الشهيد محمد مطهر زيد وعدد من الخبراء الروس الذين درسونا وأهلونا تأهيلاً ممتازاً في سلاح المدفعية ، وهذه الدورة الجديدة طورت أفكارنا ومعرفتنا لعلوم عسكرية جديدة، واكبها تطور عقلي وتنظيمي أهلنا للمشاركة الفاعلة فيما نخطط له.
وهذه المرحلة كانت بداية الانتقال إلى تفكير أوسع وأرحب وحياة واسعة وبمفهوم جديد لمتابعة الأحداث والتطورات.
كان موقع مدرسة الأسلحة في العرضي الجهة الشمالية والشرقية منه ، وكان مقراً لخلايا تنظيمية ودراسية وبها جناح المدفعية، جناح المدرعات، التسليح، الإشارة، الصيانة وكذلك إدارة مدرسة الأسلحة وكان العمل بها ليلاً ونهاراً ، وتحس أن فيه شيئاً متحركاً، حياً ، ومنارة علم وحركة ضباط ورجالاً رؤوسهم مرفوعة إلى السماء متطلعين إلى المستقبل الذي يحقق العزة والتقدم، وفي تلك الفترة كان علي سيف الخولاني معتقلاً في سجن حجة وكان قبل الاعتقال هو وعدد من الضباط الذين تخرجوا في القاهرة وعُينوا إداريين في مدرسة الأسلحة، والقوة الحقيقية هي الضباط المتخرجون من الكلية الحربية والطيران، بعضهم يدرسون في مدرسة الأسلحة والآخرون تخرجوا، وتم تعيينهم في فوج البدر ، ومنهم : حسين الرضي وعبدالرحمن الترزي وأحمد مطهر يحيى جحاف وغيرهم من الضباط الأحرار الذين لا تسعفني الذاكرة بذكر أسمائهم جميعاًَ.
الإعداد للثورة
كان ثمة عدد من الضباط في الفوج، والتحق بعضهم بمدرسة الأسلحة في بداية عام 1962م، يعيشون حالة التهيؤ والرغبة والانخراط في التنظيم، وهي بداية قيام تنظيم الضباط الأحرار ، الذين تحركوا ليلة السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر للقضاء على الإمامة كما جاء في كتاب" وثائق وأسرار الثورة اليمنية" وكان الوجود الميداني للتنظيم في مدرسة الأسحلة هو الأساس للحركة، وتكونت الخلايا والجماعات من خلال الضباط القياديين في التنظيم بحسب العلاقات والثقة والمعرفة والارتباط بالضباط بعضهم ببعض، كانت بدايتها المدرسة التي خلقت ثقة مطلقة واعتمد عليها في التنظيم وتكوين الخلايا، وتمكنت قيادة التنظيم المكونة من محمد مطهر وعلي عبدالمغني ومحمد الشراعي وصالح الأشول وحمود بيدر ومحمد الخاوي وعلي الضبعي وغيرهم من القياديين الذين تمكنوا من تشكيل الخلايا ممن يثقون بهم من زملائهم.
وكان لي الشرف أن نظمني في خليته الشهيد محمد مطهر زيد قائد جناح المدفعية، وقد ذكرت الأسباب في تكوين الخلايا للتنظيم ، فالقيادي في التنظيم يختار الأقرب إليه من زملائه بعد أن تتعمق الثقة فيما بينهم بمواقف مختلفة، تحافظ على سرية التنظيم وتحقق أهدافه، وكان يبلغني الشهيد محمد مطهر بكل التطورات في التنظيم، وأن قيادة التنظيم تعمل على توسيعه ، وأن له فروعه في الحديدة وتعز، وتنسق عملها مع الشخصيات الوطنية العسكرية والمدنية.
وللثقة الكبيرة التي يتمتع بها الشهيد محمد مطهر زيد بين زملائه وقدرته على كسب ثقتهم تمكن من تكوين عدة خلايا لم تذكر في وثائق وأسرار الثورة اليمنية.
وكان لمجموعة المدفعية دورها في العمل التنظيمي وتكوين الخلايا بعد دراستها من القائد محمد مطهر بكل حذر وسرية، لأن الرؤوس على الأكف، ونحن نعلم أن التنظيم له حلقات متواصلة بعضها مع بعض داخل مدرسة الأسلحة بالتنسيق مع الإخوة الضباط من فوج البدر، ومنهم حسين الرضي وعبدالرحمن الترزي وأحمد مطهر ويحيى جحاف، وكذلك مع مدرسة الإشارة وبعضهم من مدرسة ضباط الصف.
لقد كان التنظيم يعتمد على سريته وعدم الجمع على طريقة "كلنا واحد"، فهذه هي الحلقات التي كنت أعرفها في مدرسة الأسلحة في " العرضي" وأصبحت فيما بعد مقر قيادة الثورة أو مقر قيادة الثوار الذي تجمعت فيه الحركة الوطنية، والذي تمكنت قيادة التنظيم الضباط الأحرار فيه بإعداد القوة لإنهاء الحكم الإمامي، هذا الموقع هو مقر الثوار الذي لم يكن من الممكن أن ينشأ مثله في اليمن لأنه جمع كل العناصر التي يحتاجها التنظيم، والذي انتظم فيه ضباط الثورة مع جنودهم مع صف ضباطهم الذي صنعوا تاريخ اليمن الحديث. <