معارك الشرف دفاعاً عن الثورة "1962-1966م"
لقد تحركنا بقوة عسكرية كبيرة بقيادة الشهيد محمد مطهر زيد من صنعاء يوم الجمعة السابع والعشرين من أيلول /سبتمبر 1962م إلى عمران لمطاردة البدر ، وسمي ذلك التحرك حملة عمران -كحلان- عفار.
قامت هذه الحملة العسكرية بواجباتها بتوجيهات الشهيد محمد مطهر، صاحب الدور التاريخي زميل علي عبدالمغني الذي لم يعط حقه من التكريم بما يستحقه ، فقط استطاع الشهيدان علي عبدالمغني ومحمد مطهر وزملاؤهما أن يقودا العمل التنظيمي العسكري لقيام الثورة ، وبعض رواة الأحداث لا يذكرون الحقائق لأسباب لا أعرفها، لأننا حينما نتكلم عن الحقيقة فهي قوة للثورة وقوة للتنظيم، وبإنصاف للعلاقة التي تجمع علي عبدالمغني بزميله محمد مطهر فإن احترامه له كان لسببين: السبب الأول: أن محمد مطهر أقدم منه، ويتمتع بكل الصفات الحميدة كما يتمتع بالتقدير والاحترام من جميع ضباط الثورة وغيرهم . السبب الثاني: أن علي عبدالمغني يحترم محمد مطهر باعتباره العقل الذي يتفق مع عقليته وتفكيره،وكذلك تقدير محمد مطهر لزميله علي عبدالمغني، لأن الثقة بين الرجلين كبيرة، والقرارات الهامة يتفقان عليها ويوجهان بها التنظيم هذه العلاقة العضوية الأخوية يجب ذكرها بصدق وبموضوعية، كي تكون الصورة واضحة للتعاون الثنائي في العمل الوطني والعمل السياسي. وكذلك كانت العلاقة بين الإخوة صالح الأشول وأحمد الرحومي وحمود بيدر وعلي بن علي الجائفي ومحمد حاتم الخاوي وغيرهم..
لقد أردت من خلال ذكر هذه الحقيقة أن أبين أهمية العلاقة العضوية والروحية والوطنية بين القياديين بعيداً عن حديث العاطفة، وتحدثت بعقلانية وصدق عن المعاني الجميلة التي لم تذكر من قبل بما تستحقه من الإنصاف لأولئك الأفذاذ.
والحقيقة التي يجب أن نتكلم عنها اليوم بشكل موضوعي ووطني.. أن كل اليمنيين ثبتوا قواعد الثورة: المدني والشيخ والضباط، الشمالي، والجنوبي، الشافعي، والزيدي والهاشمي والقحطاني، كل هؤلاء أمام التاريخ مساهمون في صنع الثورة، وبهذا نستطيع أن نكتب التاريخ لمن يحلله من الباحثين، وعلينا أن نحرص على الصدق والأمانة في تسجيل أحداث تاريخية لها أهميتها وقيمتها لكي يعرفها أبناء شعبنا كما صنعها أولئك الضباط الأحرار يوم 26 أيلول / سبتمبر عام 1962م.
وإن الأحداث التاريخية الهامة يجب ذكرها ، وربما يسهو الإنسان عن بعض تفاصيلها الصغيرة، لكن سأحاول قدر الإمكان أن أتذكر الدور الهام في تثبيت الثورة ، لأن المواقف والأحداث أصبحت جزءاً من تكوين شخصيتي العسكرية القيادية" التي تأهلت بها خلال عملي في المجال العسكري".
بعد هروب البدر المخلوع تحركنا يوم 27أيلول / سبتمبر بعد الظهر من صنعاء إلى عمران بقيادة الشهيد محمد مطهر، وكانت الحملة تتكون من : مجموعة الدبابات بقيادة عبدالله صبرة، وعبدالله المؤيد وزيد الشامي، ومجموعة المدفعية بقيادة محمد مطهر وعدد من الإخوة الزملاء ضباط الثورة ، وسريتي مشاة من القناصة، وسرية من الجيش النظامي وعدد من ضباط الصف أو ضباط التحرير فيما بعد..
تحركنا إلى عمران لمطاردة البدر، وتقرر أن تبقى مجموعة المدرعات في عمران بقيادة عبدالله عبدالسلام صبرة الذي عين قائداً لمنطقة عمران ، وله تاريخ طويل في هذه المنطقة ودور فعال ، وهو شخصية قيادية مؤثرة استطاع أن يكسب كل المشائخ من أبناء قضاء عمران ، وتحمل المسؤولية كاملة بشجاعة وصبر، وكان يدعم جميع الجبهات في كحلان ريدة، وذيبين وله دور عظيم وقدرة كبيرة، ويستحق الاحترام لأدواره ، لقد تحمل المسؤولية في عمران مدة عام يقدر بعشرة أعوام، وكان معه عدد من الزملاء ضباط المدرعات، وآخرون من رجال الثورة أمثال أحمد البطل ومحمد البرطي، وكان لهما دورهما ليلة الثورة في تعطيل الاتصالات بين القصر ورجال العهد الملكي .. وعدم تعطيلها كان يمكن أن يؤدي إلى نوع من الإعاقة. ولقد كان التحرك السريع إلى عمران وكحلان وعفار لمطاردة البدر وتثبيت الثورة أمراً مهماً، وكذلك الحملات التي تحركت بعد حملة عمران كحلان إلى بعض الجبهات ، وعمران كحلان هي أول حملة عسكرية تحركت لمطاردة البدر المخلوع وللدفاع عن حجة،معقل الثقل والتأثير في الحكم الإمامي، والتي انطلق منها الإمام أحمد عام1948م واستطاع أن يستعيد الحكم بعد مقتل والده الإمام يحيى، لقد استفاد ثوار أيلول/ سبتمبر من الحركات السابقة، وأصبحت خبرة مفيدة لكبار الضباط وصغارهم وكل الوطنيين الأحرار الذين عاشوا إخفاق ثورة 1948م.
ولواء حجة يعد معقلاًُ للقبائل الموالية للنظام الإمامي، وهي خاصرة المنطقة الشمالية الغربية التي يعتمد عليها الإمام، ونقطة انطلاق إلى أكثر من منطقة تمكنه من التحرك إلى الحديدة وصعدة ومنها إلى صنعاء..ولواء حجة موقعه الجغرافي والاستراتيجي ممتد إلى أقصى الشمال، وغرباً إلى الحديدة وشرقاً وجنوباً إلى عمران وصنعاء.
ملاحقة البدر
في هذه المرحلة كانت المعركة الفاصلة على حجة هي التي أفشلت المحاولة اليائسة للإمام المخلوع البدر، ولا أريد أن أسبق الأحداث لذلك أواصل الحديث عن حملة عمران كحلان، لقد مكثنا ليلة في قشلة عمران التي فيها كتيبة من الجيش البراني من منطقة الأهنوم ، واستطاع الأخ الشهيد محمد مطهر بحكمته وحنكته التي لم نكن نعرفها أن يتعامل مع البشر ومع الجنود "البراني" الموالين للإمام. وفي هذا الموقف نلاحظ القدرة القيادية بين حماس صالح الرحبي وحنكة وحكمة محمد مطهر وكون جنود الأهنوم متشددين في التشيع وموالاة الإمامة وكانوا يسمونهم المحبين للإمام.
إن شدة صالح الرحبي في تعامله مع جنود الأهنوم الموالين للإمامة مختلفة عن حكمة محمد مطهر، وحادثة صالح الرحبي يرويها من كان معهم، لقد خاطبهم بحكمة قائلاً : الجيش قام بثورة، وأنتم ستكونون من أوئل المستفيدين منها. حاضرهم لمدة ساعة عن العهد الإمامي ونحن واقفون بجانبه، منتظرون الموت ، لكن الحكمة كانت الغالبة، ثم أضاف : وأنتم وما تحبون ، إذا أردتم أن تكونوا معنا فنحن إخوانكم، وإذا كان لديكم رغبة في الذهاب في إجازة وتستلمون مرتباتكم وتعودون بعد نهاية الإجازة فهذا عائد إليكم، لأنكم إخواننا وأبناؤنا. والسلاح ملك الدولة. فكان ردهم رغبتهم في الإجازة. ثم ناداهم بالنداءالعسكري " أرضاً سلاح ! خطوة للخلف سر"، ثم حرك الطابور بعيداً عن السلاح ،ليستلموا مرتباتهم، وأعد لهم سيارات لنقلهم إلى أقرب مكان توصل إليه السيارات، هذه هي الحكمة في التعامل في مثل هذه المواقف الصعبة.
وفي الوقت نفسه استدعى مشائخ الجبل وعيال سريح والجنات والأشمور لكي يتحركوا معنا في الفجر لمتابعة البدر ومطاردته، وخلال ساعات الليل غادر جنود الأهنوم وسلموا السلاح، وتأهبنا للتحرك إلى كحلان وحضر المشائخ عند الفجر.. وتحركنا من عمران إلى الأشمور قرية "حلملم" التي يقول فيها المثل" محل البر في حلملم ومسكنه في المصانع"، واستقبلنا الشيخ حزام العري -رحمه الله- خال الشيخ عبدالله الأحمر، وكان شيخأً كبيراً في السن له تأثيره في المنطقة على الأشمور، وعند أول ضوء في الصباح بدأنا القصف بضرب حصن بيت عذاقه في مسور، بعد أن علمنا أن البدر استقر فيه محاولاً جمع أنصاره للهجوم على حجة.
ومن العناية الإلهية أن الطلقة الأولى أصابت الحصن، وكان البدر قد وصل من المأخذ إلى مسور في الليلة نفسها التي وصلنا بيت الولي في كحلان ، وبات في الحصن المذكور وعند سماعه طلقات المدفعية وعلمه بالمتابعة غادر مسور لمهاجمة حجة، لقد تمت تحركات الطرفين وكأنها مطاردة في فيلم سينمائي ، نحن وصلنا عمران في بيت عذاقه مسور ، وفرّق بيننا وبينه الليل وتحركنا فجر اليوم الثاني إلى الأشمور، وقصفنا الحصن وهو عبارة عن نوبة أو قصبة يسمونها الحصن ، وحرصنا على ألا نضرب بني حور ، مع الإشاعات التي كنا نتابعها بأن سادة بني حور معه، وكان يتحرك معه بعض الأفراد من بعض القرى وثقته كبيرة في مسور حجة.
القصف المدفعي على الحصن وكثافة النيران أفزعتاه فترج مسور هارباً في اليوم نفسه
وبعد أن علمنا بهروبه من حجة أصبحت معنوياتنا عالية لأن الهزيمة والرعب استولت على الجانب الملكي ، وبدأ الناس ممن كانوا معه من همدان وجبل عيال يزيد والمأخذ وغيرها يعودون إلى قراهم .. وتحركت بعض قبائل مسور معه، وحاول بهم احتلال حجة لكن المتابعة والمطاردة بالضرب العشوائي إلى عزلة الشراقي أفزعتهم وهربوا.
وهذا الإزعاج والتخويف أقلقهم، كما لو كنا جحافل وراءهم، والأبطال الذين كانوا في سجن حجة من الثوار بقيادة المرحوم العقيد علي سيف الخولاني، وزملائه دافعوا ببسالة عن حجة وفشل الهجوم وتغير الموقف تماماً وحضر إلينا جميع عزل كحلان عفار إلى بيت الولي يؤيدون الثورة والجمهورية.. ومديرية كحلان عفار واسعة ، بها تسع عزل إحداها عزلة بيت قدم التي بدأت بالتمرد.
هذا الموقف القوي أنهى الاضطرابات لمدة شهرين في المناطق الشمالية الغربية، لم تكن ثمة مشاكل في مسور وكحلان وعمران إلى بداية كانون الأول / ديسمبر 1962م، بعدها بدأ التمرد بقطع الطريق وبالهجمة المضادة علينا خلال هذه الفترة، علماً أنه صدر التوجيه من المشير عبدالله السلال رئيس مجلس قيادة الثورة بأن أتولى قيادة منطقة كحلان عفار خلفاً للبطل محمد مطهر زيد بناءً على ترشيحه، وصدر القرار بتعييني قائد اً لمحور كحلان عفار في 2 تشرين الأول / أكتوبر عام 1962م، وكذلك صدر قرار آخر من رئيس مجلس قيادة الثورة الشهيد محمد مطهر أن يتوجه بجزء من القوة الموجودة في حملة كحلان لمساندة حملة ذيبين. <