اعتبارات سياسية
إن المتاعب الجسيمة التي واجهت الثورة وقادتها قد أفرزت خلافات بين زعمائها من سياسيين وعسكريين، وكذلك من جهة أخرى من الإخوة في القيادة المصرية العسكرية والسياسية، وقد كان من الممكن أن يخف العبء على القوات المصرية في اليمن في وقت مبكر ، لكي تتمكن من أن تكون في مواجهة القوات الإسرائيلية، بدلاً من استنزافها في جبال اليمن، لكن الاعتبارات السياسية التي كانت تمارسها القيادة المصرية، كان لها رؤيتها، ولم تواصل تدريب الوحدات اليمنية البديلة للجيش المصري، وهذه التجربة أعطتنا خبرة بأن نكون وحدات يمنية بإمكاناتنا الذاتية، وخبرتنا المتواضعة إثر انسحاب القوات المصرية بعد نكسة 1967م، واستطعنا أن نكون وحدات ناجحة. ورؤية الإخوة المصريين أن اليمنيين لا يمكن أن ينضبطوا، فتبين العكس، فالجندي اليمني منضبط وكذلك الضباط، والمقاتل قد أدى دوره في الميدان بشجاعة وانضباط.
عُينتُ "أو على الأصح" انتخبت قائداً لسلاح المشاة خلال وجودي في القاهرة ولما رجعت إلى اليمن عام 1967 كلفت كذلك الإشراف على لواء الثورة أو ما تبقى منه وكنت ارتبطت به نفسياً أربع سنوات "1963-1966" وللأسف حدث في الفترة "1966-1967" إهمال له وضياع لكل ما بنيناه في تلك السنة المحزنة.
لقد كان الهدف واضحاً من تدريب وتأهيل وحدات يمنية لتحل محل الجيش المصري، وحدة يمنية حديثة تدربت في وقت قياسي 7-8 أشهر ، تقوم بهذه المهمة، إنها تجربة فريدة تستحق من الباحثين العسكريين دراسة نجاحها.. وتمكن لواء الثورة من مواجهة العصابات المغرر بها.. وقد استمرت مدة عام حتى تم ردعها، وأصبح المحور آمناً بفضل ثبات قواتنا في مواقعها وتعاون المواطنين، وكان مركز قيادتي في ثلا، وكنت أتحرك خلال المواقع في كوكبان ومداع وبيت علمان وحضور الشيخ والزافن، ومسور وحجة لأن الارتباط الميداني هو الذي يفرض الاحترام والطاعة لدى الجنود المقاتلين، وخلاف ذ لك يؤدي إلى الانفلات وعدم احترام القيادة التي لا تعيش همومهم وواجباتهم.
وكانت علاقتي مع ضباطنا وجنودنا وصف الضباط والأفراد علاقة زمالة، نجلس بعضنا مع بعض، ونتكلم بعضنا مع بعض عن الهموم، وعند أداء الواجب العسكري كان الوضع يختلف، كل يؤدي واجباته طبقاً للمهام العسكرية.
وأود التأكيد أن روح الزمالة، والتعامل بالاحترام خلقت بين الضباط والأفراد ثقة مكنتنا من أن نؤدي الواجب الوطني بالقناعة والثقة المتبادلة، وبروح معنوية عالية في جبل مداع والكلالي وبيت عز وحضور الشيخ ، وغيرها من المواقع ، وكنت أزور الجندي في "دشمته" ويؤدي التحية بمشاعر صادقة، وأتعامل مع هذا الجندي المرابط في موقعه كزميل مقاتل، وهو في غاية الانضباط العسكري، وكنت ألامس قضاياه المعيشية والصحية بما في ذلك الإجازات والترفيه وكل مستحقاته.
وكانت الزيارات متواصلة، فكنت أمكث عدة أيام في قيادة اللواء، ثم أواصل زيارتي للمواقع العسكرية، هذه الزيارات والمعاملة تركت أثرها إيجابياً في نفوس الزملاء الضباط قادة الكتائب، وقادة السرايا، وقادة الفصائل، فصمدوا في مواجهة المغرر بهم، ومن ثم استطعنا أن نعرف المغرر بهم بأن هذه الوحدة اليمنية ليست ملحدة أو شيوعية أو من أجانب كما كانت الدعايات المعادية تثيرها بينهم، واستطعنا أن نقول لهم: هذا الجندي هو أخوك وابن عمك وابن بلدك.
دحض الشائعات
لقد علم معظم أبناء تلك المناطق بأن الوضع الجديد غير قابل للإشاعات والتضليل، وتم توضيح الوضع الجديد للقوة الجديدة، وأن الإخلال بالأمن سيواجه بالإجراءات الحازمة من قيادة الكتائب والسرايا والفصائل، وسوف يمارسون مهامهم العسكرية، وبهذه الإجراءات الحازمة والتوضيح انتهت الفكرة المغلوطة التي كان يروج لها أعداء الثورة والجمهورية عن الجيش اليمني، وعن القوات المصرية والتي كان يصدقها ضعاف النفوس والبسطاء من العامة..
وفي الجانب الإداري تحملت المسؤولية بوصفي مسؤولاً عسكرياً وإدارياً ، وكان عدد من موظفي الدولة يمارسون أعمالهم ، وكنت أتعامل معهم في حدود الواجب وأساهم معهم فيما يسمى الآن بالعمل التنموي.. في مشاريع ، وخدمات ، وتعاون، تحت هذه الأسماء البسيطة ، كنا نتعاون مع الناس بعيدين عن الظلم أو عن عبثية بعض القيادات التي كانت تحدث في بعض المناطق ، بعيدين عن التصرفات والممارسات الخاطئة التي يجب أن نعترف بها سواءً كان بقصد أو بغير قصد.
وكان القائد العسكري في بعض المناطق يتدخل في الأعمال المدنية، ويأخذ من الواجبات وإيرادات الدولة، لكني لم أمارس هذا الأمر نهائياً، بل على العكس كان في مسور الأخ البطل راجح أبو لحوم عاملاً " مديراً للناحية" يمارس صلاحيته الإدارية ، ولم أتدخل فيها ، وكذلك في ثلا وفي كوكبان. وكان ارتباطه بالقيادة "العربية" للحصول على مرتبات الجيش الشعبي، وطلبت من القيادة العربية أن تكون المرتبات عن طريقي، وكان القلق من أن القائد اليمني ربما يأخذ هذه الاعتمادات الخاصة بالجيش الشعبي، أو يحقق شيئاً لمصلحته منها.. وكان مندوبه يمكث شهراً في صنعاء، ويصرف منها خمسة آلاف ريال، ويسلم الباقي للشيخ راجح أبو لحوم، لكني غيرت هذه الطريقة وأرسلت المندوب المالي المصري إلى القيادة العربية لاستلام المرتبات، وطلبت إرسالها إلى العامل الشيخ راجح أبو لحوم في مسور خلال يومين بالمبلغ كاملاً.
هذه الحالة تركت عند العامل انطباعاً جيداً ، وبعد مدة زارني الشيخ راجح في مقر القيادة في ثلا، وسبق أن زرته في بيت عذاقة قبل زيارته بعدة أشهر. وخلال زيارته قال: "ياسيدي، أنا قد اشتريت لك ساعة، هدية"، فقلت : لماذا يا عم راجح؟ فقال : "ما كنت أتصور أني أستلم تسعة وعشرين ألفاً مرة واحدة، إلا من يدك"، فقلت له : هذا واجبي، وكثر الله خيرك، وهذه الهدية مقبولة وأرجو أن تتوقف عند هذا الحد، قال : "والله لا، عاد به حاجة ما عذر ما أديها لك" قلت : ما هي؟ "هذا ألف ريال، هدية مني"، فقلت له "يا عم راجح تدي لي رشوة؟!"، قال : "ولله علي الطلاق ثلاث، أن الألف الريال ما عذر ما أديه لك من طيبة نفسي إحنا زملاء وإحنا إخوة، ولا تعدّه رشوة"، هو لأنه مسؤول إداري معين من الدولة لا يحتاج أن يرشيني ومسؤول كبير من بيت أبو حلوم.
هذا التعامل الأخوي لا يمس بحقوق الدولة ولا أملاكها ولا إيراداتها، فالموظفون والإداريون في كوكبان وفي شبام وفي ثلا وفي مسور وجدوا أن الإدارة ليس فيها مصلحة شخصية أو استغلال للنفوذ، ربما كان هذا السلوك نتيجة للتربية الوطنية والمبادئ التي آمنا بها، وعملنا من أجلها، وفي الوقت نفسه راسلت الهاربين من المشايخ والقبائل والعقال والقضاة الذين بقوا في جانب الملكية، ونجحت في إعادة الكثير، ومنهم السيد عبدالله أبو منصر ، والقاضي محمد الورد، وأسماء كثيرة لا داعي لذكرها، عادوا بعد أن راسلتهم ، وأمنت أسرهم، وفهّمتهم أن الدولة تطلب منهم العودة إلى أسرهم وبيوتهم آمنين، لأننا لن نسمح بأن يمس النظام الجمهوري، ولن نسمح بالإخلال بالأمن والاستقرار والإضرار بالمواطنين الأبرياء.
وحينما اجتمعت ببعض العقال والمشائخ والأفراد ، قال بعضهم من أبناء القبائل: "الجائع منا ما يفعل؟ إحنا بنسير ندي لنا فلوس وندي لنا كذا، لا إحنا ملكيين ولا مؤمنين بالملكية، إحنا مؤمنين بالثورة والجمهورية". قلت: هذا الكلام لا أتدخل فيه، لكن سوف نحاسب من يتآمر على النظام، أو يخل بالأمن، وسوف يواجه بالحزم وإيقافه عند حده.
وتركت الباب موارباً، ووجدوا في كلامي ما يطمئنهم. وكنت أختلط بالأهالي في كل المناسبات" الأعراس والأعياد" على مستوى القرية والعزلة والناحية، وهذه هي العلاقة الودية التي تعاملت بها مع المواطنين لكي يكون ذلك رديفاً للعمل العسكري والأمني، ومن خلال العلاقات الودية المبنية على احترام الشخصيات الاجتماعية التي كان لها مكانتها في العمل الإداري قبل الثورة، ومنهم السيد علي عباس محافظ كوكبان، والقاضي محمد عبدالله الشامي نائب الإمام في صنعاء قبل الثورة - رحمه الله- والذي عاش آخر أيامه بعد الثورة في كوكبان،وكان أيضاً محافظاً للواء البيضاء، وله مواقفه ضد الوجود البريطاني في الجنوب.
وفي إحدى زياراتي إلى منزله سألته : ما الحل لقضية الحرب يا قاضي محمد؟ اليمن بتخسر رجالها وأموالها دفاعاً عن الثورة والجمهورية! أجاب بكلمتين بحكمة وحنكة الرجل المجرب الوطني الغيور على وطنه:" السعوديون يسحبون بيت حميد الدين ويقطعون الفلوس عنهم، وعلى المشائخ والمصريين يروحون لهم وإحنا عنسد اليمنيين" "نتفق".أكد في كلامه" أن ابن سعود يسحب بيت حميد الدين، ما هم صالحين وقطع الفلوس وإحنا اليمنيين عنصلح أحوالنا والجمهورية عتبقى" هذه الحكمة استفدت منها، وتعلمت من العقلاء وأهل الخبرة وممن مارسوا الحكم، كنت أتعلم من أصحاب التجربة ومن الشخصيات الاجتماعية الذين تعاونوا معي وتعلمت منهم الكثير، وكذلك من الشخصيات اللذين تعاونوا معي وتعلمت منهم الكثير، وكذلك من الشخصيات الكبيرة التي تعاونت معي في حفظ الأمن والاستقرار ، والسيد علي بن أحمد عباس آمر اللواء محافظ كوكبان، والقاضي محمد محمد الشامي، ومن المشائخ بيت قطينة والزلب وخميس وأبو علي وغيرهم. وفي ثلا، تعرفت على بيت أبو منصر، بيت الحمدي، بيت المهندي، بيت الورد، بيت فروان، بيت العصيمي، بيت الرباحي، بيت النجار، بيت الزافني وغيرهم في مسور بيت فراص ، بيت الحوري ، بيت الفقيه وغيرهم هؤلاء تعاملت معهم خلال الأربع السنوات على المستوى الاجتماعي والإداري والأمني.
واستطعت أن أؤسس علاقات قوية في المحيط الاجتماعي، وحصلت على ثقة كثير من الشخصيات الاجتماعية، وتمكنت من الحوار مع القيادات الملكية في المحور كاملاً ووفقت في إقناع كثير منهم بارتباطهم بالنظام الجمهوري، واستطعت أن أحافظ على الأمن، وأقنعت المواطنين بخير الثورة والنظام الجمهوري.. الذي سيحقق الازدهار والخير لأبناء اليمن.<