منيف الهلالي
لقد رماني فضولي بين أكوام من البشر تجمعوا في أحد مدارس أمانة العاصمة وهناك شاهدت ما جعل قلبي ينفطر ألماً.
صراخ، شتم، سباب، مبالغ تدفع دون وجه حق، أبواب توصد تارة وتفتح أخرى، طوابير طويلة يقف فيها الأطفال والنساء والشيوخ وقد ارتسمت على وجوههم تفاصيل الحياة البائسة، يرتدون الفقر الذي استفحل في حياتهم، مولين وجوههم شطر المكتب المخصص لتسليم أكياس القمح، وقد اقتاتوا صلف وتعنت بعض الموظفين الذين أمطروهم وابلاً من الشتائم والسباب وتعاملوا معهم بطريقة إقطاعية جعلتني أتذكر الروايات القديمة التي تتحدث عن العبيد وأسواق الرقيق، لغة السياط التي كان يتعامل بها أهل الجاهلية مع الجنس البشري.
وعندما سألت أحد الموجودين عن السبب الذي يقف خلف هذه الحشود المتزاحمة أجابني بأن هناك لجان تقوم بتوزيع الهدية الإماراتية المعلن عنها منذ عدة أشهر.
فأن تجود دولة الأمارات العربية المتحدة على منتسبي الضمان الاجتماعي في الجمهورية اليمنية برزمة من أكياس القمح فذلك عمل خيري يجب أن تشكر عليه، ولكن أن يعامل المستفيدون من هذه الأكياس بتلك الطريقة الفجة فذلك أمر يجب التوقف عنده ولفت انتباه الجهات العليا والتي ربما قد تكون هذه الأيام غارقة في الاعداد للعرس الديمقراطي المتمثل بالانتخابات النيابية القادمة دون أن تلقي بالاً لقضايا المواطن ولقمة عيشه.
إن هذه الشريحة والتي تمثل الطبقة الأدنى إذا ما جاز لي تصنيف المجتمع اليمني إلى أربع طبقات: "أثرياء، متوسطي الدخل، فقراء، أشد فقراً"، تعيش حالة من البؤس والفقر المدقع يصعب علي وصفها، لكن هنالك من لا يستشعر حال هؤلاء ولا يعيرهم أي اهتمام، بل أنه يسرق منهم لقمة العيش وهي في طريقها إلى تشكيل ولو جزء من سعادتهم المعيشية، فحبات القمح المهداة من الشقيقة الإمارات تحولت وبقدرة قادر من أكياس عليها العلم الإماراتي إلى أكياس أكثر بياضاً ولمعاناً تباع وتشترى في الأسواق العامة، أما ما تبقى منها فقد اكتظت المدارس والأماكن المخصصة لتوزيعها بالمواطنين واستخدمت معهم كل الأساليب المهينة والمنفرة بهدف إفساح المجال للمتاجرين بحقوق المواطنين واستنزاف ما تبقى من سبل عيشهم.
ولكم هو مؤلم أن يغادر الموظف المختص بتوزيع القمح قبل انتهاء دوامه الرسمي بساعتين أو أكثر تاركاً أرباب الأسر الفقيرة للشمس تجلد ظهورهم في انتظار عودته كيما يحصلون على المونة الغذائية التي تسد رمق حياة أبنائهم.
لا أعلم من المسؤول عن مثل هذه المهازل التي تقطع شريان الأمل من الوريد إلى الوريد؟!
ومن باستطاعته الوقوف مع هؤلاء الذين تحرمهم عشوائية النظام من فتات جادت به أيادي جيراننا الأمراء والملوك؟ّ!
ولماذا يظل هؤلاء عرضة لكل طاهش وناهش دون رادع؟
لقد منحوا بطاقات أو كروت ما يسمى بالضمان الاجتماعي وخصصت لهم رواتب في كل ثلاثة أشهر تقدر ب "8000" ريال أو يزيد قليلاً لكل حالة، ولكن كان لا بد لهذا المبلغ الزهيد من أن يمر إجبارياً على جهات مختصة في اقتطاع الحقوق وبتر الرواتب دون مراعاة لظروفهم المعيشية وبدون تقدير للارتفاع الجنوني في ثمن السلع، ثم أن هنالك بعض الحالات المعسرة، المستحقة لراتب الضمان الاجتماعي، تم استبدالها بأخرى ميسورة الحال مقابل مبالغ مالية تسلم جهاراً نهاراً، مما يعني وجود "لوبي" في أجهزة الدولة يعمل على تكريس العشوائية ومساعدة الفاسدين على التوغل في كل المرافق الحكومية لنهش ما تبقى من جسد الدولة المترهل الذي أوشك الفساد أن يعلن سيطرته المطلقة عليه.
هكذا دائماً يبقى الفقراء عرضة للتلاعب في حقوقهم وتظل الظروف المعيشية مكشرة أنيابها في وجوههم وكما قال الشاعر:
يمشي الفقير وكل شيء ضده
والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه مبغوضاً وليس بمذنب
ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة
خضعت لديه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً
نبحت عليه وكشرت أنيابها
اتمنى على الجهات المعنية مراجعة الأخطاء التي يعود ريعها لصالح الطبقات الأرستقراطية ويتكبد ويلاتها الفقراء والمحرومين من أبناء هذا الشعب الذي ما زال يناضل كي يبقى حياً في ظل الإبادة الجماعية التي يرتكبها المفسدون بحقه.
فهل من مجيب؟ وهل للقانون أن ينتفض في وجه أعدائه