مؤتمر خمر
إن الصراعات السياسية والإرهاصات والاضطرابات في الصف الجمهوري أدت إلى عقد مؤتمرات في عمران، وخمر.
وفي بداية عام 1965م خلال قيادتي لقطاع محور ثلا مسور، زارني في ثلا الأستاذ الشهيد القاضي محمد محمود الزبيري، ومعه القاضي محمد علي الأكوع والقاضي محمد الزبير وزير الداخلية، وابلغوني أنهم ذاهبون إلى المناطق الشمالية الغربية، لتوعية المغرر بهم من المناطق التي تسيطر عليها العقلية الإمامية، وشرحت لهم الموقف،وقلت لهم : إن هذه مغامرة خطيرة جداً، وحرصاً عليكم لا أرى أن تقوموا بهذا النشاط. أجابني الشهيد محمد محمود الزبيري: إنها محاولة لكي أتحدث مع هؤلاء الناس، وأوضح لهم أهداف الثورة المباركة التي ستحقق الخير والرخاء، وتقضي على الجهل والفقر والمرض، وأعرفهم أيضاً بقيادة الثورة ورجالها المؤمنين الصادقين الذين يعملون من أجل مصلحة الشعب.
قلت: يا قاضي محمد أنت رجل دولة وسياسي كبير، وتعرف طبيعة هذه المناطق التي يحركها من تبقى من أسرة بيت حميد الدين، وأنت من الشخصيات التي يجب علينا أن نحافظ عليها ، وأنت ضمير الأمة ورمزها، والمغرر بهم في هذه الجهات غير مؤهلين أن يسمعوا الكلام منك " ويستوعبوه" كرجل سياسي وثائر ومناضل كبير ولشرح الإسلام وعلاقته بالثورة ، لا يفهمون ولا يعقلون..لأن الأعداء يشيعون أن الثورة نظام شيوعي، والثوار ملحدون والدعاية المضادة للنظام الجمهوري قوية، وكذلك المال الذي أعمى بصائرهم . وبعد نقاش طويل اقتنع القاضي محمد وزملاؤه بما شرحته لهم من خطورة المجازفة بزيارة هذه المناطق واقتنع بالعودة حرصاً عليه وعلى من معه.
وذلك لمعرفتي بالمناطق المتأثرة بالعقلية الإمامية في مسور والزافن ومداع وكحلان لأني حاربت فيها، وعشت مع أهلها ، وقاتلت أشد أعداء الثورة وأكثرهم تخلفاً.
وهم يرون الثوار والشهيد الزبيري متمرداً على الإمام ، ويجهلون أن القاضي محمد محمود الزبيري عالم كبير وصادق، لكن الإشاعات والدعاية والذهب الملكي كان له تأثيره عند بعض القبائل، وكان من الممكن أن يقوم أحد بقتله، كما حدث بعد ذلك حين اتجه إلى خولان حتى وصل برط واستشهد فيها"في 1 نيسان/ أبريل 1965م".
وخلال انعقاد مؤتمر خمر، بدأت أستوعب العمل السياسي وأصبح لدي القدرة على الفهم والمشاركة والاستيعاب، وتعلمت من الأحداث ومنها أهداف المؤتمر التي تدعو إلى تحقيق الاستقلالية في القرار اليمني وإنهاء الحرب في اليمن والتفاهم مع المملكة السعودية التي تتدخل في اليمن بسبب وجود المصريين، وإضافة إلى عوامل أخرى، فأصبحت قضية اليمن بين أطراف خارجية، واليمن ساحة الصراع.. بين طرفين عربيين هما ثورة تموز/ يوليو ومن يواجهها من المعسكر المحافظ "الرجعي".
واختلف الساسة اليمنيون والعسكريون والمشائخ، ودخلنا هذا الصراع، فأصبح منا من يؤيد ما ترسمه السياسة المصرية إيماناً بأن الاستقلال والسيادة هما من حق اليمنيين في ذلك الوقت، وكنت مؤيداً للاتجاه الذي يدعو إلى الاستقلال بالقرار السيادي والسياسي، وهذا هو الخطأ الذي ارتكبناه في حق مصر، واعتبرنا تدخلهم ومشاركتهم لقضايانا تدخلاً في السيادة الوطنية.
وكنا نرى أن الجيش المصري شريك معنا بالدم والمال والسلاح فيكف نبعده عن القرار السيادي والقرار السياسي؟، وهذا أمر غير منطقي وغير معمول به في العلاقات الثنائية المشابهة بين دول العالم.
وكان من الحكمة أن يكون هناك نوع من الشراكة في تعاملنا الخارجي وفي قرارنا الداخلي، لأننا شركاء مع دولة عربية بدماء أبنائها التي تسيل من أجل اليمن وتساعدنا بالأموال والإعلام، وفي المحافل الدولية تتكلم وتدافع عن اليمن، وعن قضايا السيادة الوطنية، هذا الموقف استوعبته متأخراً، وكنا نريد من المصريين أن يقاتلوا ويضحوا بأبنائهم وألا يتدخلوا في القرار السياسي أو المشاركة فيه.. وهذا الموقف غير منطقي وغير سياسي، بل وغير أخلاقي.
لقد تجاهلنا مساحة المصالح المتبادلة بين الدولتين والثورتين القائمة على الشراكة، وهذا الموقف غير الخاطئ وغير السياسي وبالأفكار السياسية المثالية التي انتهجها الأستاذ الزبيري والقاضي عبدالرحمن الإرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان، كل ذلك لا يتفق مع المنطق الصحيح للعلاقات السياسية التي تعمل بها الدول ، وتعترف بحقوق ومصالح كل الأطراف.
لقد كانت تلك المواقف غير مدركة للعلاقات الإستراتيجية الدولية أو العلاقات الثنائية بين الدول، ولذلك فقد كانت قراءتهم السياسية للعلاقات الدولية محدودة ومثالية، ولا تخدم العمل السياسي والعسكري الذي تشارك فيه مع دولة أخرى بجيشها وأموالها وسياستها التي سخرتها لصالح اليمن.
إن تلك المواقف التي انتهجتها بعض الزعامات الوطنية ليست سياسية ولا واقعية، ولأن قراءتهم السياسية محدودة، وكان يمكن أن تتجنب اليمن كثيراً من الخلافات التي كانت سبباً في إعاقة تقدم الثورة لكننا ارتكبنا خطأ فادحاً، لأن تجربتنا السياسية ومعرفتنا كانت الصادقة، وإيماننا بوطنيتهم، كنا نثق بكل ما نسمعه منهم، وحينما نحضر الاجتماعات مع الزعماء الكبار الإرياني، الزبيري، النعمان، الجائفي، ونستمع إليهم نحن الضباط الصغار بمعلوماتنا وخبرتنا السياسية والإدارية المحدودة جداً ، كنا نستمع إلى كلامهم وتحليلاتهم بعقولنا وقلوبنا، وكنا نسمع الدكتور حسن مكي، والدكتور العطار، ومحسن العيني، ونعجب بكلامهم لأن الضباط الأحرار كانت معرفتهم السياسية والعلاقات الخارجية بالدول محدودة جداً.. وكل ما سمعنا منهم صدقناه، وتحركنا معهم في مؤتمر خمر، ومؤتمر الجند حتى دخلنا سجن القاهرة، ولو كان لدينا تأهيل سياسي لما وقعنا في ما وقعنا فيه، وربما تكون الخسائر أقل مما حصلت، وتجنبنا الصراع فيما بين الرئيس المشير عبدالله السلال والقاضي عبدالرحمن الإرياني والنعمان والفريق العمري، هذه مرحلة أعدها من أخطر المراحل التي تعرضت لها اليمن بسبب القصور في الفهم السياسي ممن كانوا يعدّون أنفسهم سياسيين.. لقد كنا نرى المظهر يدل على أن صاحبه عالم بالسياسة، ومن ثم ما قاله يجب أن نصدقه أيضاً .. وثقتنا بوطنية القاضي عبدالرحمن الإرياني والقاضي محمد الزبيري والأستاذ أحمد النعمان وخطاباتهم الجميلة ولغتهم العربية الفصحى وأحاديثهم الرائعة حينما يتكلمون عن القضايا الوطنية، كنا نستمع إليها من دون معرفة البعد السياسي في العلاقات مع الدول، مع السعودية ومصر وأمريكا والروس وغيرهم، ولم تتوافر لديهم معلومات عن تفاصيل ودهاليز السياسة الخارجية في التعامل بين الدول التي تركز على المصالح المشتركة والفهم المشترك بين كل الأطراف..هذا الفهم لم يكن موجوداً لدينا، لقد وقعنا في أخطاء أضرت بالمصلحة الوطنية لأننا كنا نجهل أبعادها فطالت الحرب، واستشهد أصحابنا وإخواننا، وسجنا في السجون الحربية وفي الرادع والقلعة في صنعاء، وتعرضنا لمتاعب كبيرة وتعرض إخواننا المصريون لخسائر فادحة ومتاعب، وبتصرفاتنا الخاطئة أحرجناهم سياسياً أيضاً وخارجياً، وحصلت إساءة ضد الإخوة المصريين في مؤتمر خمر، وذهب المؤتمرون إلى السعودية يعقدون مؤتمراً في الطائف أحرج إخواننا في مصر، وأبعدهم عن المشاركة والتنسيق في قضيتنا المشتركة، وربما بعض الإخوة الذين ذهبوا إلى السعودية موجهون من بعض السياسيين بحجة أن هذا التصرف المنفرد أضر باليمن، وعلى الباحثين والمؤرخين والمهتمين بالأحداث أن يدرسوا الأخطاء التي أدت إلى تأخير انتصار الثورة اليمنية وأعاقت إنهاء القتال، وضاعفت من الخسائر البشرية والمادية، في المعارك العسكرية وفي المعارك السياسية، التي حدثت من نيسان/ أبريل 1965م إلى 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1967م.
قصور واضح
إن تباين المواقف في تلك المرحلة كان نتيجة قصور وعدم فهم بالتعامل مع الدول بمختلف اتجاهاتها وكذلك قصور في فهم الشراكة في القضية اليمنية مع الجمهورية العربية المتحدة،ونحن كعسكريين وضعنا ثقتنا كاملة في زعمائنا السياسيين، وسلكنا الطريق نفسه الذي سلكوه، وعدد ممن كانوا يسمون بالشباب السياسيين الذين حضروا من الخارج وشاركوا في مؤتمر خمر كان لهم طموحات سياسية ومواقف حزبية، لها خلافاتها مع مصر، كان القاضي محمد الزبيري، والأستاذ أحمد النعمان، والقاضي عبدالرحمن الإرياني، كان لهم طموحاتهم المشروعة لأنهم الجيل المؤسس للحركة الوطنية في الداخل والخارج ، ولو توافرت النوايا الحسنة والصدق فيما بين الزعماء في سجن حجة، وكذلك خلاف الإخوة في الاتحاد اليمني والدكتور البيضاني وجماعته حول التعامل مع مصر والجهة التي ينسقون معها، وكان الشهيد محمد محمد الزبيري والأستاذ محمد أحمد نعمان يرفضان التنسيق مع المخابرات المصرية لأنهما لا يعرفان أن من البديهيات لمن يريد قيام حركة وطنية في بلدة يجب أن ينسق مع مخابرات الدولة التي هو فيها لإسقاط النظام، ولا يمكن أن يكون التعامل في مثل هذا الأمر مع رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة.. لكي يتآمر على دولة له علاقات بها، مما أدى إلى خلافات في الاتحاد اليمني، وانعكس على الواقع بعد الثورة.. وانقسموا على أنفسهم، وكانت جماعية الدكتور البيضاني من الذين كان لهم تنسيق مع المخابرات المصرية ويعرفون اللعبة السياسية ويدركون أهمية ارتباطهم بالجهاز الاستخباراتي المصري، فمن يتعاون ضد نظام الحكم في البلد المعني عليه أن ينسق مع المخابرات، هذه الخلافات أذكرها لأنها خلافات عكست نفسها بعد الثورة على اليمن، وانعكست سلباً على النظام الجمهوري، وأطالت مدة الحرب، وأثرت سلباً في دور القوات المصرية في حرب 1967م وللأسباب السياسية والعسكرية التي ذكرتها أخرت عودة القوات المصرية لمواجهة العدو الصهيوني في حرب 1967م.
وكان بعض الزعماء الجمهوريين المشاركين في مؤتمر خمر يرون في محاولة تطمين المملكة السعودية عبر بعض الدول التي لها علاقات جيدة مع السعودية ستساعد على الحوار المباشر مع المملكة، لإنهاء الحرب وإيقاف الدعم للمغرر بهم وبيت حميد الدين. وهذه المحاولة خلقت أجواء من سوء الفهم وعدم استيعاب لأخلاقيات العمل السياسي التي كان يجب أن يتحلى بها هؤلاء القادة، وعكس ذلك نفسه على فهمنا نحن الضباط الصغار في بداية التجربة، فكنا نتخبط يميناً وشمالاً ، وكان منا من يسمع كلام المشير السلال ومنا من يقتنع برؤية القاضي عبدالرحمن الإرياني والأستاذ محمد محمود الزبير والأستاذ أحمد نعمان، هذه الاضطرابات الفكرية والسياسية لم يتعرض لها أحد ممن كتبوا، وبهذا الوضوح وهذه الشفافية التي أتحدث بها اليوم، لأني شاركت فيها وأعترف بالقصور في فهم الأحداث وطريقة معالجتها في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ الثورة.