نبيل مصطفى الدفعي
عند نزول الناس إلى الشارع كل يوم غالباً ما يصيبهم الذهول جراء ما يشاهدون من مناظر وأنا طبعاً واحد منهم، فمرة توقف ذهني عن كل شيء بعدما تكرر أمامي المشهد الرهيب أكثر من مرة وفي أكثر من مكان.
في الوقت الذي أوهمنا أنفسنا به أننا نتطلع للجمال ونسعد به وأننا بدأنا نعيش حضارة قرن فبقدم من الزمن ولكن تخترق الصورة الواقعية المفزعة كل ما في الوجدان من تصالح مع الطبيعة صور غير حضارية بكل المقاييس، ولا أعرف كيف تراكمت وتأكد وجودها، ولماذا تجيء كضربات السوط أيام العبودية، واقع ثقيل الأثر يفرض نفسه في العراء، وقتنا الحالي وبهذه الأيام.
أبونا الوحش.. أو الطاهوش.. أو الغول أو كما تريدون سموه، فهو بكل ما في القصص أو الحكايات المرعبة أيام الطفولة يجلس أو يرقد على الرصيف كومة من التراب والطين والشعر فنفوش يعبر عن ملامح حزافية للصداء الذي تنبض فيه حياة من نوع آخر وأقمشة صفراء ورمادية كانت رداء أو قميص أبيض في يوم من زمن بعيد جداً، ورجولة توحشت وشاخت وأصبحت أثراً وسيقان لشجرة سقطت فروعها فأسودت وتخشبت وأجربت وأصوات مبهمة كانت لمخلوقات قديمة لم تتعلم الكلام، فإذا تخطيت الرعب وحاولت مد يد المساعدة يرفض بداية في إباء وحيناً وبحركة شبه عدوانية يأخذ منك الصدقة، إنه ليس متسول! فماذا تراه يكون؟
الركن الذي اختاره تتجمع فيه البقايا المتهالكة فهل هذا بيته الذي اختار أن يستقر فيه؟ّ! وهل له أقرباء أمثاله في الأركان الأخرى من الشوارع أو على الجولات في عدن والشيخ عثمان أو المعلا والتواهي؟
أسئلة حائرة تتزايد عندما ترى النوع الآخر، رجال من العصور الوسطى، نعم ليست هناك أي مبالغة، فأبونا الوحش أو الغول أو الطاهوش يكاد يكون صورة باهتة للصورة التي يظهر عليها هؤلاء الرجال بأي مكان آخر بالمدينة، عياناً جهاراً، الدقون الطليقة التائهة مع الشعور الضاربة في كل الاتجاهات والملامح التي تلخص في كلمة واحدة كل ما في العالم من بؤس والسترة الممزقة التي لا تستر والأقدام التي تحولت إلى حيوانات قارضة، ثابتة في مكانها ولا تخاف الناس، وتسخر من الزحام وتصر على البقاء!
هو الآخر لا يتسول.. في الحقيقة لا يستطيع أحد معرفة ماذا يريد، ولماذا هو على هذا الحال؟ هو أيضاً له صلة قرابة مع كثيرين غيره قد يختلفون في الشكل عنه والحجم ولكنهم يتماثلون معه في رفض العصر وفي تحويل الأرصفة إلى كهوف أو بيوت.
أكرر أنني لا أبالغ ويراهم أغلب الناس في النهار وفي الليل حتى يغلبهم النعاس ويستجيبون له كأنهم في بيوت لها أبواب ونوافذ وأسرة وأمان! حتى عاد ذهني إلى الوعي حاولت من ناحيتي التفسير، الفقر أو الهروب، أو محاولة الانتحار أو الرفض للدنيا ولكل ما فيها، أو اتجاه عبثي جديد ينادي بالعودة إلى الطبيعة، ولكن أي طبيعة.
كما قلت ارجوا ألا يحاول أحدكم المكابرة أو الاستنكار، فأنتم ترونهم ربما حتى بلمحة ثم تنصرفون وقد راود أحدكم خاطر أن يفعل مثله يرمي العالم كله خلف ظهره.
هؤلاء المتوحشون أو الطواهيش أو الغول ظاهرة خطيرة وجديدة ولا بد أن تكون موضع الاهتمام دون قسوة أو عنف أو مطاردة تنتهي في مكان لتبدأ في مكان آخر، فهي ليست بحاجة لمكافحة التسول فقط، إنما هي أبعد من ذلك بكثير وتصر على جواب السؤال ماذا حدث لبعض الناس ولا أقول كل الناس؟! والله من وراء القصد.