بقلم :د.نسرين مراد
مرت أقل من ست سنوات على بدء نقل الديمقراطية الأميركية إلى العراق. خلال هذه الفترة عانى العراق وشعبه ومقدراته الويلات والتشريد والتخريب والنهب. لا تكاد تمر ساعة واحدة دون حصول انتكاسة أمنية أو إدارية أو سياسية يكون الاحتلال طرفاً فيها، بشكل مباشر أو غير مباشر. تركّزت النجاحات حول إنشاء بضع مؤسسات إدارية ودستورية شكلية مثل مجالس الرئاسة والحكومة والبرلمان والقضاء والنزاهة. لكن الحال بالنسبة للجيش والشرطة والدوائر العامة لم يزل يواجه معضلات المحاصصة الطائفية التي تزيد استفحالاً بمرور الزمن.
اتخذت الحملات للانتخابات العراقية ميزتين رئيسيتين إحداهما أصيلة متأصلة في المجتمع العراقي ألا وهي اللعب على أوتار المذهبية والعرقية، وبدرجة أقل الدين. الميزة الثانية مستوردة من الجانب الأميركي ألا وهي توظيف بل ضخ الأموال للحصول على الأصوات.
كان ذلك بشكل مباشر بالمقايضة أو غير مباشر بالإغراءات المصاحبة لشخصية الحملة الانتخابية الإعلامية. لكن وحسب النتائج الأولية شبه الحاسمة خابت آمال اتباع الطريقتين في الحصول على نجاح توقعوه. أثبت الناخب العراقي أن صوته لا يذهب بناء على وعود براقة باسم الدين والمذهب والعرق. كذلك فهو لا يُشترى بأموال عامة ذهبت إلى جيوب المرشحين من تبعات فوضى الاحتلال ونزواته.
بالرغم من الاستخدام الواسع للجيش والشرطة وقوى الأمن الأخرى إلا أنه طرأت على عملية الانتخاب خروق كثيرة. تزيد هذه من حدة الشبهات حول نزاهة العملية برمتها، وصحة نتائجها. تزيد من وطأة الشبهات في نتائج الانتخابات حالة تأخير فرز الأصوات وإعلان النتائج. . ذلك ما يجعل أرباب ورواد العملية السياسية المستوردة يأخذون وقتاً كافياً للتشكيك والطعن بنجاح الآخرين وتبرير فشلهم لأنفسهم وأتباعهم. التشكيك في نزاهة انتخابات عامة أمر طبيعي عالمياً، يزيد الأمر سوءاً في ظل احتلال لا يراعي في احترام حقوق الآخرين إلاً ولا ذمةً. قد تصل حدة التشويه والتشكيك في النتائج إلى درجة المطالبة بالتراجع عن الانتخابات أو إلغائها أو إعادتها، كلياً أو جزئياً. . لاقت الأحزاب الطائفية والمذهبية والعرقية ضربة موجعة وخيبة أمل غير متوقعة. إذا ما صدقت النتائج هذه فلقد مال الناخبون إلى مؤازرة الأحزاب والفئات الوطنية! والمعتدلة وحتى اللبرالية والعلمانية على حساب الطائفية. ضاق الشعب العراقي ذرعاً بالحال التي وصل إليها في ظل سيطرة الأحزاب الطائفية، وأجهزة إعلام كل منها التي تتسم بالتحريض والتعبئة النفسية ضد الغير. أكثر تخصيصاً أدرك الناخبون أن تولّي مقاليد السلطة وكنز الأموال هي كل، أو بالأحرى جل ما يؤرق الساسة الجدد. . يمكن القول ان العرس الديمقراطي كان ناجحاً رغماً عن باكورته والظروف المرعبة التي وُلد وترعرع فيها. كان من الممكن أن تتبع الدولة العراقية الحديثة بعد الاحتلال أسلوباً آخر تحتاج فيه إلى إدخال النّفَس الديمقراطي، خطوةً خطوةً، بدءاً بعقول وقلوب أطفال المدارس. لكن الاحتلال الأميركي لا يترك الشعوب الأخرى تحل مشاكلها بأنفسها وبالطرق الخاصة بها، ومراعيةً لظروف ثقافية واجتماعية وتاريخية خاصة بها. . كان تنفيذ نقل الديمقراطية الأميركية إلى العراق أشبه بتنفيذ الأوامر العسكرية. تواريخ وقياس خطوات الاحتلال مفروضة راسخة بل ومقدّسة. كذلك هي الأساليب في تنفيذ الحملات الدعائية وصرف الأموال عليها وباستخدام أية طريقة تخدم الناخب. بأسلوبه الخاص يزيد الاحتلال الأميركي من عبثية الأوضاع وجعلها على الدوام هشة تحتاج إلى بقائه في العراق، كطبيب مناوب!، لمراقبتها والتأكد من «مضيّها بنجاح»!.
بعد نجاحه المفترض، أو المتوخى، في إقامة ذلك العرس الديمقراطي المبكر بات على العراقي أن يفسد مخططاً رئيسياً جهنمياً أتى الاحتلال لتنفيذه، ألا وهو تقسيم العراق وتفتيته بأيدي أبنائه. الاحتلال الأميركي يريد تحطيم وحدة العراق بطريقة لطيفة ذكية! بعد أن عجزت آلة الحرب الأميركية الضخمة وأساليب الاستخبارات الخبيثة عن النيل منها إلى الحد الذي يتوخاه. لكن العراق اليوم مقسّم عملياً فعلياً إلى أقاليم ومحافظات مذهبية وعرقية تتبع قيادات تميل إلى النأي بأنفسها كلياً عن الحكومة المركزية.
يريد هؤلاء الاستمرار في تحقيق أقصى ما يمكن من الحصول عليه من الكعكة العراقية بعد الاحتلال. ليس غريباً القول بأن الديمقراطية الوليدة أو الناشئة في العراق بهذه الطريقة سوف ترسخ الانقسامات إلى حد تفتيت وتمزيق وحدة العراق، أرضاً وشعباً ومصيراً. إقليمياً وعالمياً لم يزل العراق ضحية الدول الطامعة في التدخل في شئونه، لأسباب دينية ومذهبية وجغرافية وسياسية. . على رواد الديمقراطية العراقية الحديثة أن يأخذوا بعين الاعتبار أن تلك الدول لم تزل تتربص بالعراق شراً، وعن طريقهم. لا يستطيع العراقيون تخطي هذه الصعوبة إلا بالوحدة والتكاتف والتآلف والتلاحم المصيري لكافة مكونات الشعب العراقي. لكن من أين تأتي الوحدة الآن لشعب لا تزال الأحزاب المذهبية والعرقية تقف بقوة وبأس لتلك الوحدة بالمرصاد وعلى مدار الساعة؟!، في الشمال والجنوب والوسط. كما يقول التعبير العامي الشائع «كل يغني على ليلاه».
أمام الحكومة المركزية وحكومات المحافظات والأقاليم الكثير مما يجب عمله للخروج بالعراق نهائياً من كبوته. حتى إذا ما اتفقنا على أن الديمقراطية في العراق عتيدة بل كطفل صغير بات على الجميع التعاون والتآزر معها لمساعدتها وجعلها ناجحة؛ ذلك ما لا يتوفر بسهولة من الجو المحيط. الدول المحيطة بالعراق تفتقر حقيقةً إلى هذا النوع من الديمقراطية كي تداريها أو تماشيها أو تتعاون معها.