عبد الباري عطوان
تحدثنا كثيرا عن نتائج الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، واشبعناها بحثا وتحليلا، وركز البعض منا على ظاهرة 'صانع الملوك'، افيغدور ليبرمان، زعيم حزب 'اسرائيل بيتنا'، ودوره 'كبيضة قبان' في مشاورات تشكيل اي حكومة مقبلة، ولكن كثيرين من المحللين، والكبار منهم خاصة، اغفلوا نقطة هامة واساسية، وهي كيف ان هذه النتائج كشفت الغباء الرسمي العربي في ابشع صوره، واشكاله، على صعيد فهم طبيعة المجتمع الاسرائيلي، ونفسيته، وحقيقة نظرته الينا كعرب.
الغباء العربي (يصفه البعض مرونة) بدأ يتبلور من خلال مبادرة السلام العربية التي ولدت في طبعتها الاصلية على يد 'القابلة' توماس فريدمان، الصحافي الامريكي المعروف، اثناء زيارته الى المملكة العربية السعودية، ولقائه مع العاهل السعودي (كان اميرا في حينها) الملك عبدالله بن عبد العزيز، وعندما رفضتها الحكومة الاسرائيلية بقيادة آرييل شارون في حينه، ثم قبلتها بتحفظ في عهد خليفته ايهود اولمرت، جاء من يقول للمسؤولين للعرب عليكم شرحها لنظرائكم الاسرائيليين في القدس المحتلة، فأوفدت الجامعة العربية، غير مشكورة، وزيري خارجية مصر والاردن للقيام بهذه المهمة السامية، وتأكيدا اضافيا لحسن النوايا.
الشرح لم يكن كافيا، رغم بلاغة المبعوثين، وخاصة السيد المفوه احمد ابو الغيط، الذي بزّ كل وزراء الخارجية المصريين الذين سبقوه في قوة التعبير، خاصة قوله المأثور في تكسير ارجل وعظام اي فلسطيني يتجرأ على اقتحام الحدود المصرية بحثا عن رغيف خبز، او علبة حليب لاطفاله، بسبب الحصار الاسرائيلي والمصري الرسمي على قطاع غزة.
الناصحون الاسرائيليون، ونعتقد ان شمعون بيريس الثعلب المخضرم شريك العرب في حوار الأديان، ابرزهم، اقترح النزول الى الشارع الاسرائيلي، والقفز فوق الزعماء، والنخب السياسية الحاكمة، والتواصل مع هذا المواطن او المستوطن الاسرائيلي مباشرة دون وسطاء، فهذا اجدى واكثر نفعا، لان هذا المواطن، اكثر ديمقراطية وانسانية وتفهما على عكس زعمائه الانتهازيين.
محور الاعتدال العربي التقط هذه النصيحة المخلصة، والثمينة، فورا، ووجد دعما لها من بعض رموز السلطة الفلسطينية، الذين نصّبوا انفسهم خبراء في فهم العقل الاسرائيلي بحكم التجربة وتقاسم العيش والملح، فقام بتمويل حملات اعلانية مدفوعة الاجر (قبل انخفاض اسعار النفط وحدوث الازمة الاقتصادية)، لنشر مبادرة السلام هذه في صدر صفحات الغالبية الساحقة من الصحف الاسرائيلية، مزينة بأعلام الدول الاسلامية جميعا، بما في ذلك العلم الايراني (احتجت ايران بعدها) ومذيلة بأختام وشعارات الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الاسلامي، للتأكيد على التأييد المطلق لهذه الخطوة وللمبادرة معا، في سابقة فريدة من نوعها.
ولان الاموال المرصودة لهذه الحملة مغرية، خاصة لبعض السماسرة المستفيدين منها، ومن بينهم مسؤولون وابناء مسؤولين، فقد جرى توسيع دائرة الصحف والمطبوعات، ونشر الاعلانات نفسها، حول المبادرة نفسها، في صحف عربية عديدة، محلية ودولية، واخرى عالمية ناطقة بلغات عديدة من انكليزية وفرنسية والمانية وغيرها.
قلنا في حينها اننا نفهم، ولا نتفهم، نشر هذه الاعلانات عن المبادرة العربية باللغة العبرية في صحف اسرائيلية، ولكن لا نفهم ولا نتفهم نشرها في صحف عربية، وفلسطينية بالذات، لان هذا مثل التبشير بالمسيحية في الفاتيكان. ولم نجد اي اجابة عن استفسارنا، فقد طارت الطيور بأرزاقها على شكل عمولات وغيرها. وما زلنا حتى هذه اللحظة لا نعرف من الذي موّل، ومن الذي نصح، ومن الذي اشرف، وكأن هذه الخطوة مثل ابنة السيدة رشيدة داتي وزيرة العدل الفرنسية مجهولة الاب، لا يريد احد الاعتراف بأبوتها.
بعد كل هذه الحملات الاعلانية، وجولات حوار الاديان المتعددة، واللقاءات مع الحاخامات والسياسيين في القاعات الرسمية، وفي الغرف المغلقة، وتأليف القصائد، والخطب العصماء، في اهمية التعايش، والتسامح، وضرورة الانتباه الى العدو الايراني المشترك، ومواجهته 'موحدين'، ماذا حدث؟ الناخب الاسرائيلي مدّ لسانه الى العرب المعتدلين، ومنظري السلام ساخرا مستهزئا، ومصوتا للاحزاب اليمينية المتطرفة، وليبرمان على وجه الخصوص، الذي هدد بضرب السد العالي لاغراق المصريين، واهان كبير المعتدلين الرئيس حسني مبارك، عندما سخر منه، واتهمه بالتستر على الانفاق، وكرر طرح برنامجه في طرد جميع الفلسطينيين من عرب عام 1948، وجعل سحق حركة 'حماس' وعدم الانسحاب من الاراضي المحتلة كشرط لاي مشاركة له في اي حكومة اسرائيلية.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة عما اذا كان القادة العرب سيعترفون بعد كل هذا، بخطأ رهاناتهم، وفشل استراتيجيتهم السابقة، والبحث عن خيارات جديدة، تنقذ ماء وجههم، وتكفّر عن سيئاتهم، وما اكثرها للأسف الشديد؟
سؤال آخر، هل سيعترف رجالات السلطة في رام الله بخطيئتهم، وافلاس نهجهم التفاوضي، ويقررون الانسحاب من الحلبة السياسية وحل السلطة، اسوة بكل الشرفاء في التاريخ السياسي العالمي الذين مروا بظروف مماثلة، مثل شارل ديغول ووينستون تشرتشل، واحمد الشقيري، والحاج امين الحسيني وغيرهم، ام انهم سيكابرون ويصرون على الاستمرار في مناصبهم، وكأن شيئا لم يحدث مطلقا، بحجة مواصلة 'نضالاتهم'، وكأن الشعب الفلسطيني لم ولن ينجب غيرهم؟
لا نعتقد ان احدا، سواء في الوسط الرسمي العربي او الفلسطيني، يملك الشجاعة، ويجري مراجعة حقيقية ونقدا ذاتيا يعلن بعده اعترافه بخطأ خياراته، وينسحب بالتالي من الحياة السياسية، لان هذه من اخلاق الفرسان، ولا نعتقد ان هذه الاخلاق موجودة عند معظم مسؤولينا وقياداتنا، وهذا ما يفسر حال الهوان التي نعيشها حاليا على المستويات والاصعدة كافة.
اي حكومة اسرائيلية تخرج من رحم الانتخابات الاخيرة، ستضم واحدا من اثنين او كليهما: بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود، او افيغدور ليبرمان زعيم حزب 'اسرائيل بيتنا'، والاثنان يتنافسان على العداء للعرب ورفض العملية السلمية، واي انسحاب من الاراضي الفلسطينية المحتلة، فكيف سيتعامل العرب، المعتدلون والممانعون، مع هذا 'التسونامي' الاسرائيلي الزاحف نحوهم؟
العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الأب الروحي لمبادرة السلام العربية، التي رجمها الاسرائيليون حتى الموت باهاناتهم، واحتقارهم، وسخريتهم، قال اثناء كلمته امام قمة الكويت الاقتصادية ان هذه المبادرة لن تظل موضوعة على الطاولة الى الابد، فهل نراه ينفذ تهديداته هذه فورا ويسحبها ويقلب الطاولة بقيادة تحرك عربي نحو المصالحة، والبحث عن الخيارات الاخرى بعد سبع سنوات عجاف من التيه في صحراء الوهم بحثا عن سراب السلام؟
ليس من طبعنا التفاؤل لأننا فقدنا كل امل في هذا النظام الرسمي العربي، ولكن لعلنا نرى او نسمع عكس ذلك في الايام المقبلة، وان كنا نشك.<