يحي أبوزكريا
إلى متى يا أمي .
والله لقد إنفطر كبدي وتفتتّ أعضائي ،وقد تفتتّ أعضائي حقيقة ،فما إن إنتهيت من عملية جراحية في الكلية ،حتى دخلت غرفة العمليات لإستئصال المرارة و أشياء أخرى لا أقدر أن أرويها لك حتى لا تصابي بشظايا حزن قاتل.
لم يبق فيّ إلاّ القلب الذي يحمل كل هذا الحبّ لك ،وكل الكراهيّة للطغاة والظالمين والذين بدون جريرة يلاحقون الإنسان ويحولون بينه وبين أن يلتقي بأمه أعظم كائن في الوجود .
بلغني يا أمّاه أنّ العمارة التي تقطنين فيها في الجزائر آيلة إلى السقوط ،دعّي شقتك يا أماه ونامي في العراء أسوة بالمستصعفين الذين إفترشوا الأرض وألتحفوا السماء . نامي على أحشائي المتعبة ،نامي على قلبي الذي دكدكه الزمن ،نامي على روحي المتعبة ،نامي في الفيافي و القفار يا أماه ،المهم يا مهجتي وبؤبؤ عيني ،يامن كنت توفرين في مصروف البيت الضئيل الذي كنت تحصلين من والدي المجاهد الذي قاد ثورة الجزائر هو و المجاهدون ورفض الحصول على أي إمتياز لإصراره على أنّه جاهد للّه تعالى وليس لدنيا ينالها ، هذا المصروف الذي كنت تعطيني إياه لأشتري كتبا و دواوين وروايات هذه الكتب التي شكلّت ثقافتي و أفكاري وحبّي لجمالية الحياة و إنسانية الإنسان .
أمّاه أتمنى أن أراك ذات يوم وأشرب معك قهوة ,لكن ماذا نفعل مع من صادروا وطنا حررّه أبي ، ماذا نفعل مع من لا يحب نور الفكر و يدمن على الظلام و لا يحبّ النقد ولا يحب الثقافة ،بل هو مفطور على الظلم و الإستبداد و فتح السجون والمعتقلات . و محنة المثقف تزداد بشكل كبير في بلادي و في العالم العربي ، و أنت تعلمين أنني وقبل مغادرتي الجزائر كتبت قائلا :
إن المثقف إذا مال إلى السلطة قتلته المعارضة ،وإذا مال إلى المعارضة قتلته السلطة ،وإذا بقيّ حياديا قتله الإثنان معا .
يا أمّاه فلتتضرر الأوطان وبيوت المستضعفين ،و المهم أن لا تتضررّ قصور الرئاسة وقصور السيادة التي يسكنها كبراؤنا الذين يتلذذون بصناعة الظلم والمأساة و ينتجون الحزن و الذين أقاموا مصانع للدموع و الأوجاع و العذابات .
والعجيب يا أمّاه أنّ الزلزال لا يطاول قصور الرئاسة و دوائر قرارات الظلم العالمي بل يصيب المستضعفين الذين لا يملكون قدرة على شيئ ،أي حكمة إلاهيّة هذه يا أمّاه .
نعم يا أماه إن الله يملي لهم ليزدادوا كيدا، ثمّ يكبّهم في الدرك الأسفل من النار.
أمّاه سنلتقي يوما وسنجتمع يوما والذين أنتجوا الزلازل السياسية لا يمكن أن يبقوا سرمدا إلى يوم القيامة ،وساعتها يا أمّاه سأفرح فرحة لم أفرحها في حياتي.
أماه ،حبيبتي ،كبدي ،نخاع نخاعي كم يشقّ في نفسي ،وفؤادي ،وكم تنهمر دموعي كالأنهار ،كالشلال ،وأنت تخبريني أنك تنتظرين على أحر من الجمر ظهوري في أية شاشة عربية ،ثمّ تهرولين تجاهها و تقبلّين جهازا عديم الروح ينقل صورة مجرد صورة ،و تضمّين الجهاز إلى صدرك ،وتمرّرين خدّك الشريف على الشاشة ،و تصرخين يحي ،يحي يحياه ،يحياه ،طال الفراق ،طال البعاد ،و أنا والله كأنني كنت أسمعك فيزداد غيظي على الظالمين و أتقرّب إلى الله بتعريتهم ،و أرفع صوتي ضد مكرهم وظلمهم و إستبدادهم وسرقتهم لأموال الشعوب و أقوات الفقراء ،كنت تصرخين بالدموع ،و أنا أصرخ بقولة الحق .
كم كنت تتمنين أن تدوم برامجي ساعات وساعات ،و كنت تخففّين وطأة الحزن بوضع الشريط المسجّل في الجهاز الرائي و ربما كنت توصلين الليل بالنهار و أنت تتأملين فلذة كبدك الذي حملته رياح الظلم بعيدا بإتجّاه المنافي .
آي مهجتي ،يا نور المآقي ،يا ماء السواقي ،يا أقدس منحة من الخلاّق ،كان يبلغني و كنت أعلم أيضا ،أنه و عندما يحين وقت الغداء أو العشاء ،تتركين مكانا خاليا في المنضدة و طاولة الطعام ،و تقولين لإخوتي هذا مكان يحي ،سأسكب له الطعام الذي يحبّه ،فقد كان يتلذذ هذا الطعام ،وذاك الطعام ..
في عيدك الأبدي ،وعيدك في كل عشر ثانية ،وفي كل ثانية ،وفي كل دقيقة ،و في كل ساعة ،وفي كل لحظة ،فأنت نبض قلبي ،وكلما نبض قلبي نادى حبيبتي يا من أرضعتني حليبا طاهرا و ألبستني ثيابا طاهرة ،و دثّرتني في كل لحظة من لحظات الليل ،وكنت صاحبة الفضل في إقامة جسر متين بيني و بين الثقافة ،بين قلبي و الحضارة ،بين وجودي والمطالعة ،و عندما دبّ الوعي في كياني ،رحت تحرمين العائلة من الطعام و أصنافه ،و تخصّيني به لأشتريّ كتبا ودواوين وموسوعات .