روح الثورة
إن روح ثورة 26 أيلول/ سبتمبر لن تتغير في ضباط الثورة ورجالها الأبطال، بتضحياتهم المتواصلة، ممن وافقوا على النفي إلى الجزائر، وكان عددهم ستة عشر ضابطاً، وهم شخصيات قيادية خرجنا من قياداتنا ومن وحداتنا ومن قيادة القوات المسلحة،والموقف العسكري والقبائل والمشائخ ومعظم الشعب اليمني مؤيد لنا، ولو أردنا أن نقوم بأي عمل عسكري ضد النظام لعملناه، لكن قبلنا بأن نخرج من صنعاء بمحض إرادتنا حرصاً على سلامة الوطن وعلى بقاء الجمهورية، وسلمنا القيادات والوحدات إلى زملائنا احتراماً لقرارات الدولة، وضباط المظلات والصاعقة المقرر نفيهم معنا كان عددهم ستة ضباط فقط.
والقيادة السياسية ممثلة في القاضي عبدالرحمن الإرياني والفريق حسن العمري وجدت من المصلحة الوطنية خروجنا جميعاً. هذه هي الصورة المأساوية في حقنا تحول الجانب الملتزم باحترام الدولة وبالنظام والجانب المعتدي على النظام، في موقف واحد، وهنا أتطرق لحديث مهم جداً: بعدما خرجنا عاتب بعضنا بعضاً وتحدثنا إلى إخواننا ضباط الصاعقة والمظلات وقلنا لهم: لماذا أوصلتمونا إلى هذه الحالة المحزنة؟ الآن نحن جميعاً ضحية. وقد وجدنا عندهم جميعاً الندم لكل ما حدث من تصرفات غير مسؤولة، واتفقنا على مواصلة العتاب فيما بعد. ومن العجيب أن الدولة اعتمدت لكل واحد منا 500 دولار، وقالوا : سيكون لكم استقبال في الجزائر وفي ضيافة الحكومة الجزائرية، وستكونون مكان تكريم واحترام مدة قصيرة حتى تهدأ النفوس، وإن شاء الله تعودون قريباً ، وتوجهنا من الحديدة إلى أسمرة ثم إلى فرانكفورت ومنها إلى الجزائر، وحينما وصلنا الجزائر لم نلق أحداً لا سفارة ولا حكومة جزائرية. مكثنا في المطار خمس ساعات، ومع بعضنا أسرهم وأولادهم، وكان منظراً مأساوياً داخل المطار حتى تمكنا من الخروج.
حاولنا أن نبحث عن فندق ولم نجد من يساعدنا من السفارة، أو غيرها، ولم تبلغ السفارة رغم أن الدكتور محمد العطار أبلغنا بأن الحكومة الجزائرية سوف تكلف من يستقبلنا ويرتب أوضاعنا في الجزائر، وكذلك السفارة اليمنية، ولم نجد أحداً هناك وليس مع أحدنا إلا خمس مئة دولار، ونحن مطمئنون إلى أن كل شيء سيرتب من الحكومة الجزائرية ومن السفارة اليمنية، وللأسف لم نجد مندوباً من السفارة، ودلنا أحد الإخوة الجزائريين على فندق أحد اليمنيين اسمه محمد عباس يملك فندقاً بنجمتين. التقينا بصاحبه محمد عباس، رجل فاضل من الشعر، وكنا من هول الصدمة والضياع سعداء بأننا وجدنا صديقاً وأننا في فندقه.
وضع مأساوي
كان ذلك الوضع المأساوي ذا وقع على نفوسنا لأننا كنا القادرين على أن نمسك بزمام الأمور وخرجنا من الوطن بإرادتنا حرصاً على سلامة الوطن، وإنني لأتساءل اليوم: هل هناك تضحية أكثر من هذه التضحية؟ لا يُوجد في تاريخ الحركة الوطنية من ضحى مثل هذه التضحية، من يكون في وضع قوة ويستسلم؟ ويسلم نفسه لكي يبقى الوطن سالماً وتبقى الجمهورية ثابتة ويتحول إلى لاجئ هو وأولاده؟ وكان عتبنا الكبير على الدكتور العطار الذي وعدنا وصدقناه بأنه سيرتب أوضاعنا في الجزائر،ووثقنا بوعده الذي لم يتحقق منه شيء.
حينما وصلنا إلى الفندق ودخلناه كما يدخل الأيتام، ليس إلى مأدبة اللئام، ولكن إلى ملجأ لا نملك فيه شيئاً غير ال500 دولار التي عشنا عليها أكثر من 40 يوماً داخل الجزائر،وتحدثنا بعضنا مع بعض حديثاً طويلاً ليس له أول ولا آخر،وللأمانة، لقد أحس الإخوان بالندم، إذ كانوا يقولون: والله كثر الله خيركم أنتم قبلتم بالخروج وتعرفون الوضع، ونحن كنا مخطئين. وكأن الاعتراف بالخطأ من حمود ناجي ومن عبدالرقيب ومن عبدالواسع سعيد وزملائهم الذين شاركوا في تلك المأساة التي حدثت في صنعاء، وندموا على مواقفهم التي أوصلتنا إلى هذه الحالة المأساوية في الجزائر.
لاجئون في حالة ذهول
كنا لاجئين في حالة ذهول ومراجعة للأحداث، وبدأ بعضنا ينتقد النظام بأنه أهملنا، وبدأ بض الإخوة يتحدث بألم حينما تعرضنا لهذه الحالة المأساوية المحزنة، ننفي من بلادنا ونهيم في أرض الله في فندق غرفه بائسة.
وأصبحنا منفيين في الجزائر، وكنا قادة والدولة بأيدينا وإذا بنا نبحث عن لقمة العيش لنا ولأسرنا، هذه الحالة المأساوية لو كتبها أي قصصي مسرحي، كيف كنا في مطار فرانكفورت وأسمرة وفي مطار الجزائر، هذه الحالة المأساوية يمكن أن تكون قصة درامية لأبطال مجهولين.
كما أشرت كانت الحالة مأساوية، ونحن جميعاًَ في حالة ذهول، خرجنا من معارك ضد الملكية لعدة سنوات وسجون في مصر، مطاردات في شوارع صنعاء، وقادة كبار في مراكز قيادية كبيرة منهم: وزير الحربية ورئيس الأركان ونائب رئيس الأركان وقادة الأسلحة والوحدات المقاتلة، وكانت آمالنا كبيرة بأن قيادة الدولة ستقدر كل واحد منا وتكرمه، وإذا بنا في بلد المنفى، ووجدنا أنفسنا جميعاً في موقف واحد، وكنا نعاتب إخواننا في كل لحظة على هذه الحال التي وصلنا إليها.
لقد خرجنا جميعاً نحن أبناء وطن، وليس ثمة شمالي ولا جنوبي ولا شافعي ولا زيدي ولا مظلات ولا صاعقة ولا مدرعات، تساوينا في موقف مؤلم لنا جميعاً وضحينا بأنفسنا إلى أن خرجنا إلى الجزائر؟ هذه الصورة، هذا المشهد المؤسف والمؤلم تحملناهُ جميعاً وعانينا معاناة الرجال، وتحملناه بصبر إلى أن فكر بعضنا في العودة إلى اليمن لكي يعد انقلاباً على النظام، وكنت مع بعض الإخوة ضد هذه الفكرة جملة وتفصيلاً، مهما كانت المعاناة والعذاب.
إن الوضع المؤسف الذي كنا نعاني منه لم نعرف له نهاية، لهذا قررنا العودة من الجزائر إلى القاهرة، وعبر الجميع عن ندمهم لما حدث، وكان بعض الإخوان المتحمسين وعلى رأسهم الإخوة: علي سيف الخولاني، وحسين الدفعي وعبدالرقيب عبدالوهاب، وحمود نادي يقولون: إنه لا بد من التفكير في العودة إلى صنعاء من دون موافقة الحكومة، لكي نقوم بمحاسبة الذين تسببوا في إخراجنا من اليمن، وتركونا وأهملونا بهذه الطريقة التي كنا نعيشها داخل الجزائر، كما لو كانت القضية هي الحالة المؤسفة التي عانينا منها في الجزائر، ونسينا الأوضاع التي يعيشها الوطن باستمرار الحرب في بعض المناطق التي وجب علينا أن نفكر فيها.
ومع ذلك اتفق بعض الإخوة الضباط على العودة إلى اليمن والقيام بنشاط ضد النظام، ورفضت المشاركة في هذا الموقف، فقاطعني عدد كبير من الإخوان. اتفقنا جميعاً على العودة إلى القاهرة أولاً، ومن حسن الحظ أن الفريق حسن العمري زار القاهرة في رحلة خارجية. . فكانت العودة إليها وتنفسنا الصعداء لأن العاصمة المصرية هي الوطن الثاني لليمنيين، والاجتماعات كانت مستمرة بين الإخوان بشكل شبه منظم قبل وصول العمري، ولم أشترك مع الإخوة الذين فكروا بضرورة القيام بحركة في صنعاء، ولم أزر الفريق العمري بعد وصوله القاهرة رغم علاقتي به، وثقته التي أعتز بها.
حاولت أن أتجنب اللقاء لئلا أكون متهماً عند زملائي بأني نقلت إلى الفريق العمري ما دار في اجتماعاتهم وكنت حريصاً على ثقتهم، ولم أذهب إليه وكل الزملاء قد زاروه.