ووصلت المعلومات إلى الفريق العمري، علم بها من بعض الزملاء، وعند زيارة بعضهم له استقبلهم وطمأنهم بالعودة قريباً، وتكلموا معه بكل ما حدث في الجزائر، وبعد أسبوع سأل عني وأرسل إلى الأخ إبراهيم الحمدي، رحمه الله فقال: لماذا لا تزور الفريق؟ قلت: ولماذا أزور الفريق في القاهرة ، حينما يعود إلى صنعاء ويسمح لي بالعودة سوف نعود جميعاً مع زملائي، لأننا نريد العودة إلى وطننا، خاصة أن الأوضاع هادئة،وخلال الأسبوع الذي مكثنا فيه في القاهرة قبل وصول الفريق غادر الإخوان إلى عدن "عبدالرقيب عبدالوهاب وحمود ناجي وزملاؤهم" وبذلك انفرط العقد الذي اتفقوا عليه، وأصبح البعض نادمين على تلك المواقف خاصة بعد مغادرة عبدالرقيب وحمود ناجي وزملائهم إلى عدن، ونكثوا بالعهد مع زملائهم الذين تعاهدوا معهم على المعارضة..
بعد مقابلة الزملاء للفريق حسن العمري ومعرفتهم بمغادرة الإخوان عبدالرقيب وزملائه إلى عدن اعتذر الزملاء إلى لمقاطعتي، وقالوا: نحن نأسف ، كنا على خطأ وما كنا نقصد أن نفترق، قلت لهم بأدب بحكم الزمالة والأخوة التي بيننا: يا إخواني لقد خرجنا باختبارنا حباً للوطن ودفاعاً عنه، لو كنا نريد انقلاباً، كان بإمكاننا القيام بانقلاب من دون الخروج، الشيء الآخر مبدأ الانقلاب على أي سلطة نحن ضده دائماً، ونحن مع العمل السياسي بالتشاور والتفاهم بالحوار، الانقلاب لا تتحمله اليمن،لا منا ولا من غيرنا، ونحن لسنا أوصياء على الوطن، المهم عودتنا إلى بلادنا والإخوة في القيادة هم إخواننا وزملاؤنا ، علينا أولاً أن نعود إلى الوطن ، ولكل حادث حديث. بعد ذلك دعاني الفريق حسن العمري، وسألني عما حدث في الجزائر وكنا على الغداء، شرحت له الأحداث المعروفة لدى الجميع والمتاعب التي واجهتنا، ولم أتكلم معه بشيء آخر احتراماً لذاتي ولنفسي ولأخلاقي، وحرصاً على زملائي، وواصلت الحديث مع الفريق حسن العمري لكي لا يسيء الظن بي، قلت له: كل ما في الأمر حصل لنا "بهدلة وإهانة" وعدنا إلى القاهرة، الآن سافر الإخوان.. قال: خلاص الآن تعودون إلى صنعاء، وعدت مع الأخ عبدالله الراعي إلى مرحلة جديدة. وكانت العودة إلى أرض الوطن يوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1968. وصادفت دخول قاسم منصر إلى صنعاء.
موقف القيادة في صنعاء
بعد عودتنا من الجزائر إلى القاهرة شرحت للرئيس عن أحداث الرحلة والنفي ومتاعبه والمواقف المضحكة والمحزنة، فتأثر لما حدث، لكن ابتسامته ورده علينا كان بأن ما حصل شيء مؤسف ومؤلم، وضحك ضحكته المعتادة لكي يخفف عنا الألم، وقال: ربما كان هناك خطأ وسوء تدبير ، ما نقوله : هل نأخذ العطار ونحوله إلى المحكمة العسكرية؟ ويضحك هذا سوء تصرف وغلط، لكن الحمد لله، رجعتم بالسلامة وأهلاً وسهلاً وكانت الحرب ما زالت قائمة في بعض المناطق.
مرة ثانية في صنعاء
عدت إلى صنعاء، وبدأت مرحلة جديدة، وبعد شهر من العودة تقريباً صدر قرار بتعييني نائباً لوزير الداخلية لمواجهة مواقف صعبة كأن الأقدار وضعتني لمواجهتها.
كنا متفقين جميعاً في الجزائر أننا سنعود إلى القاهرة، وسوف نطالب الحكومة والرئيس القاضي الإرياني بالعودة جميعاً إلى صنعاء، وتحقق ما كنا نريده، وبُلغنا بالعودة إلى اليمن بعد مغادرة عبد الرقيب وجماعته إلى عدن، ولسوء حظهم وتعاسة تفكيرهم نكثوا الاتفاق مع زملائهم، وجروهم إلى موقف المعارضة ضد النظام مستغلين الخطأ الجسيم الذي حدث في الجزائر. وهو شيء مؤسف ومحزن خصوصاً بعد اتفاقنا أن الماضي لا يعود ولا يتكرر، وعلى العسكريين احترافهم لمهنتهم والدفاع عن الثورة والجمهورية، لأننا ما زلنا في حرب مع الملكية في ذلك الوقت، فلا بد أن نتجنب الخلافات ونبتعد عن العمل الحزبي،وفي القاهرة نفاجأ أنهم عادوا إلى نقطة الصفر من حيث بدأت المشكلة، هذا الموقف لا يخدم الوطن، ويعيد النعرات الحزبية والطائفية.
بهذا التصرف تأكدنا أن مواقفهم منطلقة من القرارات والتوجيهات الحزبية التي تصدر إليهم من عدن، ولم يكن ولاؤهم لحكومتهم وشعبهم الذي يعاني ويواجه من تبقى من المغرر بهم في الصف الملكي . وأصبح موقفهم واضحاً لدى أبناء الشعب اليمني.
عودة عبدالرقيب عبدالوهاب
بعد فترة وجيزة من عودتنا إلى الوطن فوجئنا بأن الأخ عبدالرقيب عاد إلى صنعاء وأصبح في مواقع عيبان وظفار في صنعاء، وفي هذين الموقعين قوة الصاعقة وكان يهدد بضرب صنعاء من هذين الموقعين. وعاد إلى نقطة الصفر لكي يهدد بضرب صنعاء مرة ثانية، هذا الموقف أوصله إلى ما وصل إليه،وعلى الباحثين والمهتمين البحث عن الأسباب التي أدت إلى وفاته.
لقد تألمت وتأسفت على النهاية المأساوية للأخ عبدالرقيب الذي وصفته بأنه شخص وطني ومميز وقائد لا يعرف السياسة ، وزميله عبدالرقيب الحربي كان سياسياً ويقول: "عبدالرقيب لا يفهم سياسة" أيضاً ًكان عبدالواسع قاسم يقول : "عبدالرقيب سيبك منه ما يعرف سياسة"
إن عودة عبدالرقيب من عدن إلى عيبان أعاده التحدي للدولة ولقيادتها، خاصة أنه عاد إلى المواقع العسكرية، وهو تحد للدولة وللقيادة العامة للقوات المسلحة، ولم يفقه أن الأمور تغيرت ، بعد خروجه من مركز القرار وتغيرت القيادات والأشخاص الذين عرفهم، فنزل إلى صنعاء، وهناك تفاصيل كثيرة لا أعرفها، لأني كنت بعيداً عن العمل في تلك الفترة ولم أعرف كيف كان نزوله ، وسمعت بما حدث له كغيري، ولا أستطيع أن أقول أكثر مما قلته، وكل إنسان عرفه حزن عليه وتألم لنهايته.
لقد كان لتنظيم الجبهة القومية تأثير في عبدالرقيب عبدالوهاب وكذلك زميله عبدالرقيب الحربي كما يقال، لكن أشك في تاثير عبدالرقيب الحربي فيه، لأني حينما عرفت شخصيته أدركت أنه لا يمكن أن يؤثر في شخصية عبدالرقيب عبدالوهاب ، وكان من الأجدر أن يؤثر فيه القاضي عبدالرحمن الإرياني ومحمد علي عثمان والفريق حسن العمري... القيادة الحزبية التنظيمية هي التي تؤثر فيه وتلزمه بتنفيذ قراراتها، والأقرب إلى الصواب أن وراءه تنظيماً خطيراً ونواياه معلنة لإقحام اليمن في صراع داخلي وربما مع الغير.
لقد تحدثت في هذا الموضوع الهام بكل صدق وأمانة بما عرفته، وأنا على ثقة بأن المهتمين والباحثين سيجدون أني ذكرت بعض الحقائق التي عرفتها وعشتها، وهدفي هو الإفادة والعبرة من القضايا التي عاشتها بلادنا لكي نتجنب الأخطاء.. وأرجو من الله ومن القراء المسامحة إن أخطأت بدون قصد فيما ذكرته.
العصر الذهبي
سوف أتحدث في هذا الفصل عن مرحلة ما يمكن أن نسميها بالعصر الذهبي لليمن الجمهوري، حينما بدأت الدولة ممارسة سلطتها من دون معارضة ، وهي مرحلة جديدة من حياة الشعب اليمني،واصلت الحوارالجاد مع دول الجوار التي كان لها موقف سلبي من النظام الجمهوري. وعملت الحكومة كذلك على إعادة علاقة اليمن مع الدول التي لم تعترف بالنظام الجمهوري واعترفت فيما بعد بالنظام الجديد في اليمن، وأصبحت الدولة قوية بمؤسساتها الدستورية وباعتراف دول العالم بنظامها الجمهوري.
كان الوضع الجديد قد استقر بعد الأحداث الدامية والمؤسفة عام 1968م، وفي نهاية عام 1969م استقرت الأوضاع وبدأت اليمن في إعادة الأمن والاستقرار بالطرق السلمية.
أفرج عن المعتقلين في أحداث آب/ أغسطس 1968م، وبعد أن عُينت نائباً لوزير الداخلية عملت على الإفراج عن الموقوفين على ذمة التحقيق،وكان منهم الأخ المرحوم عبدالله الخامري، وعدد من الشخصيات الحزبية اليسارية التي شجعت على الأحداث المذكورة.
اجتمعت بهم في وزارة الداخلية، وتحدثنا حديثاً طويلاً عن أهمية احترام الدولة والنظام الجمهوري.. ودعوناهم للعمل معاً لمواجهة ما تبقى من الفلول الملكية أو من المغرر بهم، وأن تكون جهود المخلصين والوطنيين سياسيين وعسكريين منصبة حول العمل على استقرار النظام الجمهوري ، وتحقيق السيادة على كل شبر من أراضي الجمهورية، لنثبت للعالم ولمن حولنا أننا جديرون بالحياة، وأننا متطلعون إلى مستقبل أفضل، وأن الغاية من الثورة هي نهضة الشعب اليمني وخروجه من الجهل والمرض والفقر، هذه هي المهام الأساسية لثورة 26 أيلول / سبتمبر 1962، وبدأنا نتجه نحو الانفتاح على كل القوى السياسية ومشاركة القوى الوطنية والسياسية في بناء الدولة واستقرارها.<