بقلم :د. محمد عاكف جمال
كثيراً ما يلجأ الساسة إلى حلول وسطية للخروج من مأزق قد يصعب الخروج منه دون القيام بمساومة من نوع ما.
ففي خطابه الأخير في السابع والعشرين من فبراير المنصرم أعلن الرئيس الأميركي أوباما بأن القوات الأميركية سوف تنسحب من العراق في غضون تسعة عشر شهراً، وإن ما يتراوح بين 35 ألفاً و50 ألف جندي من بين 142 ألف جندي أميركي في العراق سيبقون هناك لتدريب وإعداد القوات العراقية وحماية مشاريع الاعمار المدنية والقيام بعمليات محدودة لمكافحة الإرهاب ويأتي ذلك في إطار صفقة عقدها الرئيس مع رجال البنتاغون الذين لديهم رؤاهم الأخرى، فالجنرال بترايوس قائد القوات المركزية قد وضع جدول الانسحاب على مدى (23) شهراً، في حين وعد الرئيس ناخبيه بالقيام بالانسحاب خلال ستة عشر شهراً، وهكذا يأتي الرقم الجديد بعد أن خطا كل من بترايوس وأوباما خطوات باتجاه الآخر ليقتسما فارق الشهور بينهما.
ومع أن الرئيس أوباما يريد أن يتحقق الانسحاب من العراق وفق أطر الاتفاقية الأمنية التي وقعت مع العراق، إلا أنه تجاهل الحديث عن انسحاب بقية القوات التي وضعت لها الاتفاقية جدولاً زمنياً هو نهاية عام 2011. .وقد تحفظ على بقاء هذا العدد الكبير من القوات بعض كبار الأعضاء في الحزب الديمقراطي، في مقدمتهم نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب.ويبدو من خلال متابعة مختلف ردود الأفعال، من الجمهوريين والديمقراطيين، بأن المرجح هو بقاء (50) ألف جندي وليس (35)، وقد وضع الرقم الأخير للتخفيف من المذاق المر لهذه الصفقة.
وهذه في الحقيقة قوات كبيرة سوف تحتاج إلى عدد غير معروف، حتى الآن، من القواعد، وسيكون بقدرتها تنفيذ عمليات قتالية على مستوى متقدم خاصة وأنها تتمتع بغطاء جوي متفوق، وشبكة دعم معلوماتية دقيقة، وتمتلك أفضل أنواع الأسلحة، وتتمتع إضافة إلى ذلك بغطاء سياسي. ولمقارنة هذا العدد بما تمتلكه الولايات المتحدة من قوات في مناطق أخرى من العالم نورد المعلومات التالية.
يبلغ عدد الدول في العالم 192 دولة، ولدى الولايات المتحدة قوات في 135 من هذه الدول، أي أن 70 % من دول العالم فيها قواعد عسكرية أميركية وعدداً من الجنود الأميركان. إلا أن هذا العدد يختلف حسب الأهمية الإستراتيجية للمكان سواء من حيث الموقع الجغرافي أو الثروات الطبيعية المتوافرة فيه أو قربه.
ففي أوروبا يبلغ عدد الجنود الأميركان 42000 وفق ما أدلى به الجنرال كارتر هام القائد الأميركي في أوربا لوكالة أسوشيتدبرس ونشرته صحيفة الهيرالد تربيون في السابع والعشرين من فبراير المنصرم، وهنالك خطط لتخفيض هذا العدد إلى 32000 خلال الخمس سنوات القادمة.
أما في اليابان فإن عدد الجنود الأميركان يبلغ 47000 جندي، وفي كوريا الجنوبية 37000 جندي فقط، وهنالك نية لدى الولايات المتحدة لتخفيض هذه الأعداد في هذين البلدين، علماً بأن أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية تعتبر من المناطق المهيئة للمواجهة مع قوى عظمى.
لم يكن دخول القوات الأميركية إلى العراق، في التاسع من أبريل 2003، حدثاً عرضياً، أملته ردود أفعال لسلوك النظام العراقي السابق، ولم يكن بسبب علاقات النظام مع تنظيم القاعدة، وليس لأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، فقد تهافتت، فيما بعد، جميع هذه الذرائع، بل كان ذلك ضمن تخطيط استراتيجي، بعيد المدى، لعصر ما بعد الحرب الباردة، اشترك في وضعه وتنفيذه الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة، وفق سيناريو معد بدقة، ابتدأ بقيام الكونغرس الأميركي بإقرار قانون تحرير العراق عام 1998.
فمنذ نهاية الحرب الباردة، ومنذ أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، تبنت الولايات المتحدة فلسفة جديدة لأمنها القومي تتلخص بمنع أية دولة أخرى من أن تصبح قوة عظمى، وذلك عن طريق:
1. السيطرة على مصادر الطاقة في العالم مما يجعلها قادرة على ممارسة الضغوط على الدول الأخرى وإعاقة خططها التنموية التي توصلها إلى مصاف الدولة العظمى.
2. تطوير قدراتها العسكرية الاقتحامية وتجريد الدول الأخرى من قدرات الردع النووي الاستراتيجية.
ففيما يتعلق بالمحور الأول، يزيد عدد القوات الأميركية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط على ربع مليون جندي موزعين في قواعد عديدة في بلدان المنطقة. وليس من المتوقع تقليص هذا العدد في المستقبل القريب رغم أن توزيع هذه القوات قد يطرأ عليه بعض التغييرات حسب الظروف.
فقد نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية، في الأول من نوفمبر 2007، تصريحات للجنرال جون أبو زيد القائد العام الأسبق للقوات الأميركية المركزية، بأن الولايات المتحدة سوف تبقي قواتها في المنطقة على مدى الخمسين سنة القادمة.
وعزى ذلك إلى الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط التي تشهد ظهور حركات راديكالية معادية للولايات المتحدة، ولأهمية المنطقة من الناحية الاقتصادية، فالهايدروكاربونات، النفط والغاز، لا تزال المصدر الرئيس للطاقة في العالم. ويبدو من مُجريات الأمور، أن العراق، سيكون مركز القيادة لهذا الوجود الأميركي الكثيف، فقد شيدت الولايات المتحدة أكبر مجمع للقيادة في بغداد وهو سفارتها التي تعتبر أكبر سفارة في العالم.
وفيما يتعلق بالمحور الثاني، تسعى الولايات المتحدة إلى تحييد القدرات النووية الروسية، وهي أبرز ما يعرض أمنها إلى الخطر، ويتضح ذلك من العرض الذي قدمته إلى روسيا مؤخراً، والقاضي بإجراء تخفيض في عدد الرؤوس النووية في البلدين بنسبة تصل إلى 80 في المئة، أي إبقاء ألف رأس نووي لدى كل طرف دون المساس ببرنامج الدرع المضاد للصاروخ التي تعتزم الولايات المتحدة نشره في كل من بولندا وجمهورية التشيك.
وقد وجد الخبراء الروس بأن هذا العرض، في حالة قبوله، يُفقد روسيا ميزة استراتيجية مهمة وهي القدرة على الردع النووي، وذلك لأن ألف رأس نووي لن يكفي للتغلب على نظام الدفاع الأميركي المضاد للصواريخ.
إن استراتيجية المؤسسة الأميركية، وطموحاتها الإمبراطورية، أكبر كثيراً من أن يستطيع تغييرها مرشح للرئاسة، وجد نفسه بعد فترة قصيرة في المكتب البيضاوي، غير قادر على مقاومة صقور البنتاغون، وغير قادر على الإيفاء بما قطعه من وعود لناخبيه، وغير قادر سوى على التأقلم مع هذه المؤسسة وفضاءات استراتيجياتها. فالشرق الأوسط والتحكم بمداخله ومخارجه هو مفتاح البقاء للولايات المتحدة، كقوة عظمى، إلى ما بعد عصر النفط.