وساطة هيلا سيلاسي
إن الجهود الكبيرة الحكيمة التي انتهجتها اليمن من أجل المصالحة الوطنية لم تكن سهلة أو فرصة لقضاء الوقت في أحاديث الصالونات خارج الوطن، أو المقاهي أو المقائل في داخل الوطن، إن المصالحة الوطنية وإنهاء الحرب الأهلية التي استمرت بضع سنوات لم تكن رحلة أو نزهة أو اجتماعات في لقاءات لقضاء الوقت، إنها جهود عسكرية وسياسية مضنية، ولم تكن محاضرة في نادٍ، وقد كان في تلك الجهود المحاولة الهامة حينما زار إثيوبية وفد رسمي كبير برئاسة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني صيف عام 1969م، وكنت عضواً في الوفد خلال عملي في وزارة الداخلية، وحضر الأستاذ محمد أحمد نعمان، أحد صناع السلام من بيروت إلى أديس أبابا للمشاركة في المهمة التي ذهب الوفد من أجلها، كانت الزيارة ذات طابع سياسي لمساعدة اليمن وتوسط أثيوبية لكي يبذل الإمبراطور هيلا سيلاسي مساعيه الخيرة مع جلالة الملك فيصل، لإقرار السلام في اليمن. وتكرم جلالة الإمبراطور هيلا سيلاسي بقبول الوساطة ونقل الرسالة إلى المملكة بأن اليمن أصبحت دولة حريصة على حسن العلاقة مع جيرانها وخاصة المملكة السعودية، وليس لديها أي مؤثرات خارجية، وأن المبررات التي أقلقت المملكة في السنوات الماضية انتهت، وأهمها خروج القوات المصرية من اليمن وبأن اليمن لا تشكل خطراً على جيرانها، والدليل على ذلك على ذلك أن أثيوبية البلد المحافظ تقيم علاقة جيدة معها.
هذه هي إحدى المحاولات الجادة ، التي أكدت فيها اليمن لدولة إثيوبية وللإمبراطور هيلا سيلاسي حرصها على السلام وحسن الجوار مع المملكة في تلك الفترة الصعبة،وكثير ممن كتب عن تاريخ المصالحة الوطنية والسلام لم يتطرف إليها، لأن هذه المهمة شارك فيها عدد محدود من المسؤولين.
هذه من الحقائق التاريخية التي تؤكد أن اليمن بذلت جهداً في سعيها إلى السلام مع كل الدول التي لها تأثير على المملكة. وبعد الزيارة توجهنا إلى السودان للمباركة بحركته الجديدة بقيادة الرئيس جعفر النميري.
كانت الزيارة لإثيوبية ربما في آب/ أغسطس من عام 1969م وقبل تعييني في رئاسة الأركان بفترة وجيزة وكنت وقتها نائباً لوزير الداخلية.
هذه من المحاولات التي بذلناها من أجل تحقيق السلام بعد توحيد القرار الداخلي، وبعد انتفاء المبررات التي كانت تتحدث عنها المملكة من وجود مصري في اليمن وتطرف بعض المغامرين، وأصبح اليمن يحكم برجالة وقادته الوطنيين المخلصين والمهتمين بالسلام وحسن الجوار، مع وحرصه على علاقاته بدول العالم شرقاً وغرباً متطلعاً إلى عونها ومساعدتها للقضاء على ما تركته الحرب من خراب ودمار، وعلى ما ورثنا من الحكم الإمامي من جهل وفقر ومرض.
الخطوات العملية للسلام
تحقيق السلام يحتاج إلى فتح كل الأبواب،ولم يكن العمل سهلاً كما صورة البعض..
لقد استمر التواصل مع الإخوة في المملكة العربية السعودية ومنهم المستشار السعودي علي بن مسلم واللواء محمود عبدالهادي المسؤول عن قوات حفظ السلام بدأ في مؤتمر حرض، وهذا التوصل تم بعد مؤتمر الرباط نهاية عام 1969م بعد الجهد العربي والدولي الذي سعينا فيه واتفقنا على ضرورة أن يكون هناك لقاء يمني سعودي ، وأن نستغل فرصة المؤتمر الإسلامي الذي سيعقد في السعودية، هذا الاتفاق تم بموجب السياسة التي أقرها رجال الدولة ، والمصالحة الوطنية وفي المقدمة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني والفريق حسن العمري والشيخ محمد علي عثمان والأستاذ أحمد محمد نعمان والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والشيخ سنان أبو لحوم والشيخ أحمد علي المطري والأستاذ محمد أحمد نعمان والأستاذ محسن أحمد العيني والعقيد محمد عبدالله الإرياني والعقيد حسين محمد المسوري والمقدم علي أبو لحوم والمقدم إبراهيم الحمدي هؤلاء هم رجالا لمصالحة الوطنية، ولهذا كان التواصل في هذه الدائرة الضيقة جداً وحاولنا التكتم عليه ، لأن أي حديث عن السلام داخلياً مع ضباط القوات المسلحة والجيش كان عملية صعبة جداً، وذلك قبل أن نتأكد من جدية من المصالحة والاتفاق على بنودها، والحوار من أجل السلام عملية شاقة، فحينما نتحدث عن محاولة المفاوضة مع المملكة السعودية على عودة بعض العناصر الملكية يكون ذلك أمراً غير مقبول ، بل يقول نائ إنه نوع من التفريط والعمالة أو الخيانة.
لقد بذلت الجهود المخلصة من الإخوة العرب والأصدقاء للإسراع في تحقيق المصالحة الوطنية، ومنهم إثيوبية ودور الإمبراطور هيلا سيلاسي مع الإخوة في المملكة السعودية في الرباط ، وحديث الرئيس جمال عبدالناصر مع جلالة الملك فيصل، الذي أبلغه لفخامة القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري حينما زاره بمقره في الرباط، وأبلغه بأنه بحث مع الملك فيصل إيقاف الدعم عن الملكيين، والعمل على تحقيق السلام والمصالحة الوطنية بين أبناء اليمن،وأكد الرئيس عبدالناصر على أهمية الثبات فيما بين اليمنيين وأن يكون الوضع الداخلي في اليمن قوياً، ونحن نؤكد لكم بأننا سنعمل على تحقيق السلام، وقال: نحن معكم في كل خطوة تخطونها، وعليكم أن تسعوا في اتجاه السلام . كانت هذه نصيحة الرئيس عبدالناصر، وكذلك الاتحاد السوفييتي الذي بلغنا السفير رحماتوف، ونصح الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في اجتماع مغلق وكنت حاضراً ..بأن على اليمن أن تسعى للسلام مع جيرانها وتحل مشاكلها الداخلية، واعتذر في الوقت الحاضر عن تقديم أي مساعدات عسكرية.
مهمة صعبة
تدارست القيادتان السياسية والعسكرية- صناع السلام- أهمية عملية حسن الإخراج لهذه المهمة الصعبة،والالتزام بالأهداف التي أعلنتها الثورة ليلة السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1962م وأكدت على عدم التنازل عنها ، هذه هي قاعدة السلام، وهي الثوابت الوطنية التي تبنتها الجمهورية العربية اليمنية برئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني التي عملت من أجل المصالحة الوطنية والاستفادة من المؤتمر الإسلامي المقرر عقده في جدة، وذلك لإخراج هذه الاتفاقية إلى حيز الوجود وبخطوة إجرائية ، وتدارس الرئيس والفريق العمري ومحمد علي عثمان، أعضاء المجلس الجمهوري والإخوة الذين ذكرتهم سابقاً الذين عملوا على تحقيق المصالحة الوطنية، تدارسوا عملية الإخراج لهذه المهمة الصعبة، لأن هذه هي القيادة التي عملت من أجل تحقيق السلام ولا سيما بعد أن سمعنا نصائح الرئيس جمال عبدالناصر ونصائح السفير السوفييتي في صنعاء السيد رحماتوف.
ناقشت القيادتان السياسية والعسكرية " المطبخ الموسع" الذي ذكرته سابقاً، أهمية مشاركة بعض الشخصيات السياسية والوطنية التي لها قدرة على الحوار مع الشباب والعسكريين، لأن بعضهم ما زال متشدداً في مواقفه، فاستدعى الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني الأستاذ السفير وقتها الأخ محسن أحمد العيني والدكتور محمد سعيد العطار، لأنهما من الشخصيات الوطنية، ولهما علاقات داخلية وخارجية جيدة.
وبعد مراجعة طويلة كلف الرئيس القاضي عبدالرحمن الأستاذ محسن العيني تشكيل حكومة، مهمتها مواصلة الحوار مع المملكة العربية السعودية مع أجل تحقيق السلام.
وقبل الأستاذ العيني هذا القرار، وكنت قد كلفت بالذهاب إلى القاهرة مع العميد عبداللطيف ضيف الله لعرض فكرة تشكيل الحكومة المطلوبة على اللواء حمود الجائفي، لكي يشارك في صنع السلام باعتباره شخصية وطنية مقبولة في الداخل ومع الجيران، وسمعته في الأوساط العسكرية ممتازة، وله شعبية كبيرة، وهو من زعماء اليمن الذين كان لهم دورهم المميز في العمل الوطني، والتقينا باللواء حمود الجائفي واجتمعنا به عدة مرات وبلغنه رسالة القاضي، فكان لديه عدة تساؤلات وأهمها، كيف سيكون الموقف؟ هل نتحاور مع كل الناس؟ قلنا له : نتحاور مع السعوديين أولاً. فأظهر تخوفاً من هذا الحوار مع السعودية، واعتذر عن هذه المهمة وعن تشكيل الحكومة، رغم يقيننا وقناعتنا بأن القضية تستحق التضحية لكي تتحقق مصلحة اليمن ضمن الثوابت الوطنية وأهداف الثورة المباركة.
وكان اللواء الجائفي شديد الحذر، وبعد نقاش طويل أقنعناه بالسفر إلى اليمن لكي يلتقي بالرئيس القاضي، والمجلس الجمهوري وزملائهم المشاركين في صنع السلام ، فاعتذر اللواء . وكان القرار الصائب والناجح هي دعوة الأستاذ محسن العيني من تعز إلى صنعاء.
طرحت الفكرة على الأستاذ محسن العيني من القيادة السياسية وقبل تشكيل الحكومة لإخراج عملية المصالحة الوطنية، وفوض بإجراء المفاوضات والاتصالات مع المسؤولين في السعودية.