ونجحت الطبخة طبقاً للدستور ، فجرت إعادة انتخاب أعضاء المجلس الجمهوري ، وكان لمجلس الشورى حق اختباري ثلاثة أعضاء أو خمسة طبقاً للدستور، فرشح أشخاص لدخول المجلس الجمهوري، ومنهم الأستاذ أحمد جابر عفيف ، وانتخب ثلاثة أعضاء فقط من ستة مرشحين ، وخرج الأستاذ نعمان والأستاذ الشامي والأستاذ أحمد جابر ، ونجح في الانتخاب الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني والفريق حسن العمري والشيخ محمد علي عثمان ، هذه الطبخة السياسية تمت ديمقراطياً، وتم اختصار المجلس الجمهوري من خمسة أعضاء إلى ثلاثة منهم الرئيس . هذه المواقف والحقائق ربما يتحرج بعض الناس من ذكرها ، والتعديل بإخراج الزعيمين سبب شرخاً كبيراً في القيادة السياسية وفُسر خروج الأستاذ أحمد نعمان بأنه إخراج هاشمي ، وأثار تساؤلات وتكتلات أضرت بالعمل السياسي وبالمصالحة الوطنية، وبعد الانتخاب للمجلس الجمهوري حضرت موقف عتاب بين القاضي الإرياني والأستاذ النعمان وكان عتاباً غاضباً ومتأثراً من الأستاذ بموقف زميله الذي أخرجه من المجلس وغدر به وقال : أنت يا سيدي القاضي أثرت في مجلس الشورى وأوحيت بأن أخرج من المجلس مع السيد أحمد الشامي!، واسترسل قائلاً: هل لأنا لا نجيد القراءة ولكتابة؟ أم هل أنا غير وطني ؟ هل أنا غير يمني؟ هل هل هل ؟؟ عدة أسئلة وجهها للقاضي عبدالرحمن في حالة غضب وانفعال، لأنه أحس بأنها مؤامرة من زميله، وهذه حقيقة أتحدث عنها اليوم شاهداً على اللوبي الذي تم في المجلس بعدم انتخابهما للمجلس الجمهوري، بعد ذلك تمت مراضاة الأستاذ نعمان بأن يشكل الحكومة في تلك الفترة، وعُين السيد أحمد الشامي سفيراً في لندن ، وكان مقتنعاً بالخروج لأن الرجل قد جاهد وتعب وأدى واجبه في العمل السياسي بأخطائه وحسناته، عمل ما عمل خدمة لليمن وشارك في عام 1948م في الثورة وسجن سبعة أعوام في حجة، وحينما دعوناه إلى السلام استجاب لتلك الدعوة، وشارك فيها بصدق، وخرج من اليمن متأثراً وجريحاً وعين سفيراً في بريطانيا.
لقد كان هذا القرار خطأ سياسياً، ترتب عليه مضاعفات ونتائج أثرت في عدم استقرار النظام، وكنت أتمنى أن تعالج الأمور بحكمة، وفي تقديري لو كان الوضوح من الرئيس القاضي وزملائه بأن المصلحة الوطنية تتطلب إعادة النظر في عدد أعضاء المجلس الجمهوري يتم الاتفاق على ثلاثة للمجلس بمبررات تخدم المصلحة الوطنية كان الوضع أكثر عقلانية وحكمة ولتجنبنا إثارة النعرات الطائفية والسلالية البغيضة، وكان من الحكمة أن يتم الاتفاق على تعيين أحد الشخصين رئيس حكومة، والآخر يعين في مكان كبير يشارك في الحكومة وفي موقع سياسي بحجمه ومكانته ، لأن الصدق مع الزملاء في مرحلة هامة من التاريخ كان بمكان أن يجنب القيادة السياسية الشرخ الذي حدث، لأنهم لم يكونوا موظفين بل هم زعماء حركة وطنية وزملاء من أربعينات القرن العشرين وشركاء في صنع الثورة والسلام والمصالحة الوطنية.
مؤسسات الدولة
لقد حاولت الدولة أن تعمل على بناء مؤسساتها ،وأهمها القوات المسلحة والعمل للحصول على أسلحة بديلة لما أتلفته الحرب، لكي نتمكن من تثبيت النظام والقوانين التي تشرعها.
كنت المسؤول التنفيذي في القوات المسلحة والفريق حسن العمري القائد العام ، وكان الهمس الأساسي تجميع القوات المسلحة التي حاربت في أكثر من مكان، وهي مبعثرة في أكثر من منطقة، لإعادة تدريبها وصيانة أسلحتها وتثبيتها في مناطق إستراتيجية وتطويع المجتمع، للنظام واحترام الدستور والقوانين والانتقال إلى الحكم المدني.. وواجب الحامية العسكرية في المناطق الإستراتيجية هي المحافظة على سلامة الوطن، والمساعدة في بسط نفوذ الدولة، وكنت حريصاً كوني المسؤول التنفيذي في القوات المسلحة أن نبتعد عن ممارسة الأعمال المدنية، وكذلك الأعمال ذات الطابع السياسي والحزبي.
ربما كنت واضحاً في هذا التفكير، وكان بعض الإخوة الضباط زملائي يرون غير ذلك،ومنهم الأخ إبراهيم الحمدي أحد الشخصيات التي لا ترى الابتعاد عن العمل السياسي، بل يرى أن ندخل في عمق العمل السياسي ونشارك في القرارات السياسية ، وكنت على خلاف معه ورأيي هو أن يمارس المؤهلون بناء المؤسسات الإدارية، ويتحملون مسؤولياتهم كما هو متبع في الدول المتحضرة.. وكان هذا أحد الأسباب في بروز الطموحات التي كانت عند البعض ، ومنهم الأخ المرحوم إبراهيم الحمدي الذي كان له طموحاته في القوات المسلحة وفي العمل السياسي، وهذا التصرف كان يقلقنا حينما نسمع منه ذلك في لقاءات جادة وفي لقاءات عابرة أحياناً على سبيل النكتة أو المزاح ، وكان الضابط الوحيد الذي يطمح للعمل السياسي منذ وقت مبكر واستطاع أن يقوي صلاته وعلاقاته مع حركة القوميين العرب،والناصريين ويناور مع البعثيين ، وكنت أعارضه بقوة على مواقفه المتسرعة الطامحة للوصول إلى الحكم.
استيعاب ملكيين في الجيش
إن المصالحة الوطنية لم يذكر فيها استيعاب عسكريين لأننا نراهم أفراداً عاديين مغرراً بهم، وبعض الأفراد الذين كانوا في الملكية يجندون كغيرهم بتجنيد منظم فاندمجوا في الوحدات. وأصحاب الرتب العسكرية يشكل انضمامهم نوعا ًمن الاستيعاب لمن كان مغرراً بهم وكنا نعطيهم الرتب العسكرية التي يتفق عليها.
وانضم إلى الجمهورية قاسم منصر ودخل صنعاء في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1968م واستقبله الرئيس الإرياني والفريق العمري وكان برتبة فريق ومعه لواء مقاتل. وهي خطوة مبكرة نحو المصالحة الوطنية، وألزمنا اللواء بالبقاء في جبل الطويل ،وبدخول قاسم منصر تمكنا من التأثير في بعض المناطق المحيطة بصنعاء، فأعلنت انضمامها إلى النظام الجمهوري وهزمت معنوية الأعداء في مناطق مختلفة.
وشخصية قاسم منصر كانت تدرس أبعاد الأمور ، وذكاؤه الفطري دفعه إلى أن يبحث عن منفذ للدخول إلى النظام الجمهوري، وكان لحكمة الرئيس القاضي الإرياني والفريق العمري والشيخ محمد علي عثمان وكل القادة في ذلك الوقت أثرها الكبير ، التي تمثلت في دعوتهم لعودة كل أبناء اليمن ، وبعد هذه الدعوة الحسنة تم استيعاب المغرر بهم والترحيب بانضمامهم إلى النظام الجمهوري ، ولا سيما بعد أن علموا بعودة قاسم منصر والاستقبال الكبير الذي حظي به ، إذ استقبله رئيس المجلس الجمهوري والفريق العمري وكبار شخصيات الدولة .. تلك المواقف كان لها تأثيرها بمصداقية النظام في المصالحة الوطنية، وأن اليمن قادرة على استيعاب أبنائها، ولدى قادتها القدرة على التصالح معهم ، ونجح هذا التعامل الحكيم، وتحققت المصالحة الوطنية عام 1970م.
واعتمدت للعائدين مخصصات من شؤون القبائل، وبعضهم يجند في القوات المسلحة ، هذا الأسلوب شجع الآخرين على ترك الملكيين والانضمام للنظام الجمهوري، وكان حسن التعامل مهم ، بما يشبه العفو الوطني الحريص على كل أبناء اليمن. هذه اللغة يجب أن تظل في حياتنا السياسية والواجب المحافظة عليها الآن وفي المستقبل ، قد تجاوزنا مرحلة التعصب الأعمى والاحتكام بجهالة إلى السلاح أو الاستقواء بالخارج .. وتلك هي الخيانة!..
الوحدة هدفنا
كانت الوحدة اليمنية هدفاً من أهداف ثورة أيلول / سبتمبر التي لا تتبدل ولا تتغير، وأصبحت راسخة في وجدان كل يمني رسوخ الجبال ، وحينما نراجع الوثائق نجد أن وزير دولة الوحدة كان المرحوم قحطان الشعبي في أول حكومة بعد الثورة ، وفلسفة الثورة اليمنية أن الوحدة هدف من أهداف الثورة، ويجب العمل على تحقيقها وهو الهدف الخامس، لا يمكن لأي نظام أو حكومة أو قيادة أو رئيس يحكم إلا ويضع في برنامجه وأهدافه أهمية تحقيق إعادة الوحدة ، وقد تحققت عام 1990م وبعد استقرار الأوضاع في الشمال وإنهاء الحرب، هاجسنا هو الوحدة اليمنية، وكانت خطاباتنا ورسائلنا وتعاملنا مع الإخوة في الجنوب تؤكد على ضرورة قيام الوحدة اليمنية الاندماجية، وحينما خصصت المقاعد في مجلس الشورى، كان تفكير المشرعين هو الإصرار على المبدأ، وحينما احتل العقيد حسين عشال مقعده وزملاءه في مجلس الشورى من القادة الجنوبيين الوحدويين صفقت القاعة لعدة دقائق فرحاً وسعادة واستبشاراً لليوم الذي سوف تتحقق فيه الوحدة.
كان العقيد حسين عشال قبل الاستقلال وبعده قائداً للجيش في جنوب الوطن، وتخلصوا منه بعد الاستقلال، وكذلك تخلصوا من الشخصية الوطنية المعروفة العميد الأخ عبدالله سبعة مدير الأمن العام في عهد ما قبل الاستقلال وفيما بعد، وعضو مجلس الشورى الآن، ونزح كثير من الإخوان بفعل تسارع الأحداث في جنوب الوطن نتيجة لما حدث من صراعات من 1967م إلى 1969م إلى 1970م، عدد كبير من الضباط الممتازين، ومنهم القادة والسياسيون، ومنهم السياسي والوزير الأخ عبدالله الأصنج ورفيقه الأخ محمد سالم باسندوه وحسين عثمان عشال وعبدالله الدرويش وعلي القفيش وغيرهم من الشخصيات التي ناضلت ضد الاستعمار البريطاني، وبحكم عملي القيادي كنت أستقبلهم وأرتب أوضاعهم بناء على توجيهات القيادة السياسية والعسكرية وكانوا مؤمنين باليمن الواحد.