لهذا كنت محل ثقة في الدولة والقيادة والسياسية ممثلة برئيس المجلس الجمهوري القاضي الإرياني والفريق العمري، وهذه المكانة والثقة حملتاني أمانة كبيرة، الرئيس منحني ثقته واحترامه وكذلك الفريق، ولحسن حظي أني استفدت وتعلمت من هذه القيم في مدرسة القاضي عبدالرحمن الإرياني والفريق حسن العمري والأستاذ أحمد محمد نعمان والشيخ محمد علي عثمان، هؤلاء الزعماء الذين استوعبت من أخلاقهم وتعاملهم وسلوكهم، هذه المدرسة الراقية في تعاملها والمؤمنة بقضاياها زادت قناعتي باحتراف العمل العسكري والتعامل مع القضايا السياسية بما يخدم الدولة ولا يخدم الطموح الفردي، وربما آخرون من زملائي لهم رؤية مخالفة.
لقد كان الفريق العمري رجلاً عسكرياً ورجلاً سياسياً في حدود إمكانياته السياسية وعلاقته بالقاضي الإرياني علاقة حميمة اقتنع بحكمة الرئيس وحنكته، وكانت ثقته به كبيرة. وينفذ كل القرارات السياسية التي يوجه بها، لقد حدثت حوادث معكرة كان يمكن تجنبها كقضية الحرازي المؤسفة، وكنت أعرف أن الفريق رجل دولة واثقاً من نفسه وشجاعته نادرة ولا يهتم بتقارير المخبرين التي ترسل إليه من الجهات الأمنية، وكان يطلعني عليها وفي التقارير ما هو ضدي فيقول : إقرأ هذا الملف، ما هو صحيح صححته وما هو خطأ لا تهتم به.
لم يكن في تلك التقارير شيء يستحق الاهتمام، ومعظمها للتخويف، لأنهم يعرفون أن نقطة ضعف الحاكم هي السلطة، فكان يعطيني كل التقارير السياسية لقراءتها والاطلاع عليها، ويقول بكل ثقة ما كان فيها يستحق التصحيح صححته، وما كان فيها كذب اهملته ، كذلك الرئيس كان يثق بي ويتعامل معي بتواضع العالم ويدعوني للمشاركة في القرارات الهامة، هذه هي المدرسة التي تعلمت منها، واستفدت من لقائي بزعامات ورؤساء وقيادات، تعلمت من قدراتهم وأساليبهم في التعامل والعلاقات في إدارة القضايا السياسية.
حادثة خروج الفريق العمري
قام الفريق حسن العمري بواجباته عبر عشرات السنين، وسجن في حجة وفي القاهرة، وواجه أشرس المعارك دفاعاً عن الثورة والجمهورية، ولهذا كان في المدة الأخيرة من توليه المسؤوليات الجسام شديد التوتر والانفعال، ربما بحكم التعب، وربما استنفد طاقته خلال سنوات النضال والحرب والسجن والعمل العسكري والسياسي المتواصل، حينما تحدث قضية صغيرة كأمر الرئيس بسيارة"فلكس واجن" لعبدالله حمران ، كان الفريق حسنه العمري يتألم على الصرف من دون استحقاق ، حسب وجهة نظره، لأن المال العام شيء مقدس لا يمكن أن يصرفه أو يتعدى عليه، حتى مرتباتنا التي لم تصرف لنا ونحن في سجن القاهرة ، رفض أن يعطينا إياها، ولهذا مات فقيراً لا يملك شيئاً، وكذلك أولاده لا يملكون شيئاً، ولم ينالوا حقوقهم أسوة بغيرهم وتقديراً لتاريخ والدهم.
لقد انزعج الفريق وحنق وغاب يوماً، ولم يعرف أحد مكانه ، وبحثت عنه من خلال بعض أقاربه ، ووجدته في طريق بني مطرفي "مند" وهو في حالة نفسية صعبة.. وجدته في الحجرة المنقورة فطمأنت الرئيس عنه وقلت له : لقد وجدت الفريق العمري في حالة تأثر وانزعاج من بعض التصرفات ومنها صرف سيارة للأخ عبدالله حمران.
كان حريصاً جداً على المال العام من الفساد، وهي ثقافة وأخلاق الجيل الوطني السبتمبري العظيم، وكان انزعاجه أيضاً أن الصرفيات يجب أن تتم طبقاً للنظام ، والرئيس ربما أحرج من عبدالله حمران ولهذا تجاوز، وأمر بصرف سيارة. وفي هذه الحالة النفسية التي كان يعيشها الفريق حسن العمري حدثت حادثة محمد الحرازي بسبب اختلاط خطوط هواتف، وبحكم عمله وزير مواصلات في فترة سابقة استطاع أن يعرف رقم الهاتف وحدث ما حدث.
لقد كانت المكالمة إساءة كبيرة إليه وإلى عائلته، لا يجوز أن نتكلم فيها كلاماً غير لائق، ومع أن الموضوع إساءة لكنه ندم على عمله ، ورأى أنها حماقة، وحينما سألته عن السبب كان رده باختصار إساءة له ووساخة. كان الفريق العمري بسيطاً لا يختار الأوصاف إلا ما يجيء على لسانه، رجل عظيم بكل ما تعنيه الكلمة. هدأته وقلت له : عليك أن تنام الليلة، وسألته : هل تعشيت ؟ قال: لا فأحضرت له العشاء ومكثت معه نصف ساعة تقريباً ، بعدها قال لي: هل ستطفئ علي النور وتغلق الباب؟ قلت له : نعم سوف أغلق عليك الباب وأطفئ النور، والصباح أنا عندك، أرجو أن تنام.
أريد أن أوضح : بعد أن انتهى الفصل الأولى من الحدث ، وهو حدث القتل ، تركت الفريق في منزله لليوم الثاني، كان سؤاله قبل أن أخرج : ماذا سيكون في الغد؟ قلت له : اترك الموضوع ! أرجوا أن تهدأ في البيت، وتمارس عملك بالطريقة المعتادة وتقابل الناس، ولا تظهر أي انزعاج أو قلق، فنحن غداً -إن شاء الله- سنتدبر الأمر، وسوف أبلغ الرئيس ونعرض الأمر عليه. كل هذا في سبيل تهدئته لكي يمارس عمله بشكل طبيعي ولا يؤثر هذا الحدث في سير عمل الدولة، أو يؤدي إلى خلق بلبلة كبيرة. والحادث مؤسف ومؤلم، وكنت حريصاً ألا يستغل هذا الحدث، وتكون له مضاعفات ورد فعل عند الفريق بسب حدث آخر، وهو رئيس الوزراء والقائد العام وله سطوته ومكانته الكبيرة، وما جرى حصل بالمصادفة، وسببها غلطة هاتف فحسب.
وبعد صلاة الفجر ، توجهت إلى منزل الرئيس لمقابلته فتحدثت معه بما جرى وكان الخبر قد وصل إليه آخر الليل.
شرحت الحديث الذي دار بيني وبين الفريق وكان رأيه: عين الصواب ما فعلت وأن يمارس الفريق عمله بشكل طبيعي ويستقبل الناس ولا يصدق من يحاول أن يثيره أو يستغل الموضوع، قلت له : لقد كان الاتفاق مع الفريق على هذا الأساس، سألني : لكن ما الحل؟ أجبته: أرى أن تعطوه إجازة للعلاج والراحة ، وسوف أتعاون مع بعض الإخوان على أن نقنعه بأن حالته الصحية تستدعي الفحص والمعالجة والراحة لمدة وجيزة خارج اليمن، لأن الفريق في حالةٍ نفسية مرهقة، وبحكمتكم سوف نعمل على معالجة هذا الوضع بحكمة ومرونة بما لا يؤدي إلى مضاعفات.
التزم الفريق بالنصيحة واستمر يواصل عمله في منزله، وتواصلت زيارة المشائخ والضباط والمسؤولين له ، وهو يلتزم الصمت .. كان بعض الزائرين بجاملونه بأن ما حدث أمر بسيط، ويقولون : أنت بطل السبعين، وبعد خروجهم كان تعليقي على نفاقهم له: لا تصدق، سيادة الفريق أنت الذي حققت النصر والسلام ومواقفك يعرفها الجميع ومنها المواقف السياسية الكبيرة وأدوارك العسكرية ، وتاريخك قبل الثورة وبعدها لا يحتاج إلى شهادة من أحد لكي يشهد لك. وما يجب أن تعمله الآن أن تُعطي قسطاً من الراحة والمراجعة للأحداث، لأنك بطل السبعين فعلاً، وممن صنعوا الثورة ثم السلام.
بهذا كنت أراجعه وأخفف عنه متاعبه، ولهذا ذكرت هذا الموقف ، لكي أوضحه لكل المهتمين بأحداث اليمن وتاريخ رجالها الأفذاذ الذين حققوا النصر والسلام.
ورغم ذلك طلبنا منه بعد الحادثة أن يذهب في إجازة ، وبهذا طويت صفحة ناصعة من تاريخ الفريق حسن العمري "الوطني والعسكري والسياسي".
الذهاب في إجازة
بناء على توجيه من الرئيس بأن أتعاون مع من يمكن التعاون معهم ، ومنهم الإخوة إبراهيم الحمدي وعلي أبو لحوم وسنان أبو لحوم وعبدالله بن حسين الأحمر، هؤلاء من يثق بهم الرئيس الإرياني والفريق العمري، ذهبت إلى الفريق وقلت له : إنني قابلت الرئيس وهو يسلم عليك، ويتمنى لك الصحة والعافية، وقد أسف لما كان، والحدث قد تم ولا بد من معالجته. والآن أنت بحاجة إلى الراحة والاستجمام. فكان رده الموافقة على الذهاب إلى بيروت ثم إلى القاهرة.
سألني سؤالين: كيف سيكون أمر مصاريفي؟! قلت: مصاريف الإجازة سوف أتولى تدبيرها، قال : وبيتي من سيكمله مع المقاول/ عبد الجبار الأديمي؟ قلت له : على مسؤوليتي، سوف نعمل على الانتهاء من العمل في البيت وسوف أحاسبه بماله. لأني كنت مشرفاً على بيته.. منزلاً لائقاً به وبأسرته، فكان يساهم بعض الزملاء من الضباط والمشايخ كل بقدرته لاستكمال بناء منزل للفريق العظيم لما نعرفه عنه من نظافة اليد والنزاهة، ولشرفه ومكانته في نفوسنا وتقديرنا لكل مواقفه التي لا تنسى.
كنت أجمع الإعانات من بعض الزملاء والأخوة في القيادة أو بعض المشائخ ، ومنهم الشيخ سنان أبو لحوم وعبدالله بن حسين الأحمر وأحمد علي المطري وإبراهيم الحمدي ومحمد الإرياني، وعلي أبو لحوم، كل حسب قدرته. وتمكنا من استكمال بناء البيت المتواضع للفريق حسن العمري وكنا نخجل باستمرار من أن يسكن رئيس الوزراء بطل السبعين القائد العام في منزله القديم، هذا هو المثل الأعلى لكل الأجيال في النزاهة والشرف والأمانة لبطل النصر والسلام من دون منة أو ادعاء أو ثمن زائف.