وبعد ذلك الطرح لكل القضايا الهامة تحدث جلالة الملك فيصل عن المخاطر التي تتعرض لها الأمة العربية والشيوعية التي تسيطر على الشباب المتطرف والمتحزب، وأن على اليمن مواجهة المتطرفين والشيوعيين الذين يؤثرون على النظام فيها، وأن من الواجب إبعادهم عن التأثير في الدولة وربما رأى السعوديون استقالة أو إقالة القاضي عبدالله الحجري قراراً غير صائب، لأنه ضد التيارات اليسارية والشيوعية، وأن إبعاده بسبب مواقفه الصلبة بحسب ما كان لديهم من معلومات عن تغيير الحكومة. وانتهى اللقاء بالمجاملات المعتادة.
بعد ذلك أبديت ملاحظاتي لفخامة الرئيس بلغة الابن لأبيه، قلت له: فخامة الرئيس كنت مستعجلاً في طرح كل النقاط مرة واحدة، وربما كان التأني أفضل من ذلك، والمسائل كلها محرجة وشائكة، ولهذا لم نسمع جواباً أو تعليقاً من جلالة الملك. فكان جوابه فورياً ومن دون تفكير: لقد شرحت وأوضحت كل ما لدى، ويقيني أن جلالة الملك يعرف عن اليمن كل كبيرة وصغيرة، ونحن نريد منهم التعاون معنا في بناء الدولة وقطع الارتزاق، ويكون بدلاً عن ذلك مساعدة الدولة لنتغلب على الفقر الذي تعيشه اليمن،ونرمم ما أفسدته الحروب من أوجاع ومتاعب وخراب عبر سبع سنوات ونبني بلدنا بناءً حقيقياً، وهذا لن يتم إلا بالمساعدة الأخوية التي وعدني بها جلالة الملك في الزيارة الأولى، ولقد أكد فيها على استعداد المملكة لقطع الارتزاق مع الجمهوريين أو الملكيين، ومن هذا المنطلق تحدثت مع جلالة الملك بهذا الوضوح وبهذا الصدق، وأبديت ما لدي من هموم وأوضحت أهم مشاكل اليمن التي ذكرتها، وثقتي في جلالته بأنه قادر على فهم حقيقة ما تحدثت به، وسوف يعذرني ويقدر موقفي.
بعد هذا اللقاء مباشرة تشاورت مع بعض الإخوة في الوفد، ومنهم الشهيد الأستاذ محمد أحمد نعمان رحمه الله،والشيخ سنان أبو لحوم، بضرورة اجتماع آخر مع المرحوم الأمير فهد ، النائب الأول لرئيس الوزراء وزير الداخلية وللملك فيها بعد ، وسمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع والطيران المسؤول المباشر عن ملف اليمن. ونجحنا في ذلك المسعى، وتم اللقاء بعد الظهر في اليوم نفسه، وتكرم الأمير فهد والأمير سلطان بزيارة فخامة الرئيس في مقر إقامته وطلب منى الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني أن أحضر مع الأستاذ محمد أحمد نعمان هذا اللقاء، فاعتذرنا لكي نعطي للقاء أهميته.
والرئيس يعلم أن الشيخ سنان أبو لحوم يريد أن يطلع على كل ما دار في المقابلات، ولذا كان الرئيس يبعده عن حضور تلك الاجتماعات لمعرفته بما يريده! والرئيس سوف يجتمع مع أهم شخصيتين في المملكة لكي يوضح لهما ما دار خلال المقابلة مع جلالة الملك فيصل، وأبدينا له بعض الملاحظات ، وهو السياسي المحنك. وتمنينا أن يكون اللقاء مفيداً للجميع، وتم الاجتماع بينهما لمدة 3 ساعات، وكان لقاء واضحاً ومفيداً لمصلحة البلدين.
استبعاد الأستاذ محسن العيني
عن تشكيل الحكومة
بعد ذلك الاجتماع الهام مع سمو الأميرين فهد وسلطان، حدثنا الرئيس عن نتائجه المفيدة والإيجابية، وشرح هموم اليمن من أولها إلى آخرها، واستمع لرؤية الإخوة في المملكة تفصيلاً ، وكان الرئيس على وشك تغيير الحكومة. وخلال الاجتماع اعترض الأميران لما علما بأن لدى الرئيس اتجاهاً لتغيير حكومة القاضي عبدالله الحجري! والمسئولون في المملكة على علاقة طيبة معه ويثقون به، وقد وصلتهم معلومات بأن الأستاذ محسن العيني مرشح لرئاسة الحكومة، والمملكة متحفظة على هذا التوضيح ، لأنه لم ينجح في تعامله معهم في الحكومات السابقة، ولاسيما بعد الزيارة الأخيرة التي شارك الوفد فيها المقدم/إبراهيم الحمدي، الذي استغل الخلاف في وجهات النظر بين الأمير فهد والأستاذ محسن العيني،وعمل على إفساد العلاقة بينه وبين سمو الأمير فهد ، وأشار إلى ذلك في اللقاء بكل وضوح، وأن اليمن لديها شخصيات وطنية وسياسية قادرة على رئاسة الحكومة والتفاهم مع المملكة بما يحقق مصلحة البلدين.
وبهذه الصراحة تبين لفخامة الرئيس أن جلالة الملك والإخوة في المملكة لا يرغبون أن يشكل الأستاذ محسن العيني حكومة خلفاً لحكومة القاضي عبدالله الحجري، لأنهم يعدونه بعثياً وموالياً للعراق.
بعد ذلك ذهبنا إلى لاهور بهذه الرؤية الواضحة، وكان الرئيس قد استدعى الأستاذ السفير محسن العيني من لندن إلى لاهور للتشاور، والمعلومات متداولة عند الجميع بأن الاتجاه لتغيير الحكومة، فاعتقد العيني أن الغرض من دعوته إلى لاهور تكليفه بتشكيل الحكومة. والشيخ سنان أبو لحوم عضو الوفد أوحى له بذلك.
وإزاء هذا الموقف كان الرئيس في حيرة حينما وصل فلم يجتمع به ولم يخبره بشيء أو يتشاور معه، فقلت له: يا فخامة الرئيس من الضروري أن تلتقي بالأستاذ محسن العيني وتتشاور معه، لأن لديه إيحاء بشكل غير مباشر، أنه سيكلف بتشكيل الحكومة، وفي آخر يوم للمؤتمر التقى به وشرح له التطورات الأخيرة،وعزمه على تغيير الحكومة، ورغبته في التشاور معه ومع بعض الشخصيات السياسية،ولم يذكر له ما دار في المملكة،وقال إن المرحلة القادمة تحتاج إلى بناء وتعاون الجميع مع القوى الوطنية وسماع آرائهم ونصائحهم وطلب منه العودة إلى مقر عمله في لندن، لم يكن يتوقع الأستاذ العيني مثل هذه المقابلة التي لا تحتاج لقدومه إلى لاهور، مما ترك في نفسه وفي نفس الشيخ سنان أثراً كبيراً، ولمسنا أن مواقف الشيخ سنان أبو لحوم قد تغيرت تجاه الرئيس وتحولت مواقفه ضده.
لقد كنت مطلعاً على تلك المواقف، وكانت النتيجة أن الشيخ سنان اتخذ قراره في لاهور بالانضمام إلى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في المعارضة.
تكليف الدكتور مكي
تطورت المواقف بعد الزيارة للملكة وحضور اليمن في مؤتمر القمة الإسلامي في لاهور وعاد الوفد إلى اليمن والصورة لدى الرئيس واضحة، ولهذا قرر تكليف نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية في حكومة القاضي الحجري الدكتور القدير حسن محمد مكي بتشكيل الحكومة، وهي القشة التي قصمت ظهر البعير، فقرر المعارضون الجدد لسياسة الرئيس الانقلاب عليه، وطوروا المعارضة إلى خطة انقلابية، لقد كان تكليف الدكتور مكي بعد عودة الرئيس من لاهور بالتشاور مع الشخصيات السياسية والعسكرية لكونه شخصية سياسية وطنية، وكان الشيخ سنان أبو لحوم متحفظاً عليه وأبدى امتعاضه لتعيينه رئيساً للحكومة، ولم يهتم الرئيس بذلك الموقف المعارض، وتشكلت الحكومة في 3/3/1974م واستمرت إلى 20/6/1974م. وفي تقديري أن هذه الحكومة لو قدر لها أن تستمر إلى نهاية عام 1974م لحققت لليمن نجاحاً كبيراً على مختلف الأصعدة ولكن المؤامرات الانقلابية تحبط كل عمل عظيم، والزمن كان قصيراً لحكومته، وبعد ميلادها العسير كان الاتجاه نحو التجديد والتحديث والخروج من القيادات التقليدية التي تنظر إلى الأمور من زاوية ضيقة.
لقد كان معظم الوزراء في الحكومة من أكفأ الوزراء السابقين في الحكومات المتعاقبة، وبعض الوزراء انتقلوا من وزارة إلى أخرى في الحكومة نفسها. وكان من الصعب الحكم عليها لقصر مدتها.
مارست الحكومة مهامها بعد عرض برنامجها على مجلس الشورى والموافقة عليه، وكانت المهمة الأولى لرئيس الحكومة زيارات للدول الخليجية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وهو تقليد لكل الحكومات، وقام الدكتور حسن مكي مع وفد من الوزراء ورئيس الأركان.
- كاتب هذه المذكرات- بزيارتها هي ودول الخليج. وكان الهدف دعم الحكومة الجديدة هو نهج الحكومات السابقة التي تكونت بعد المصالحة الوطنية عام 1970م، وأن علاقة اليمن بالمملكة ودول الخليج سوف تتطور إلى الأفضل، وأن تغيير رئيس الحكومة ليس فيه تغيير للسياسة العامة التي تنتهجها الدولة، لأن من يرسم السياسة والسلام هو القيادة السياسية برئاسة فخامة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني والمجلس الجمهوري. بدأت الزيارات بالسعودية، وفي أول اجتماع تصدر المحادثات حديث عام، ثم دخلنا في الموضوع العام وطلب الإخوة في الوفد السعودي، أولاً التأكيد على بيان حكومة القاضي عبدالله الحجري بخصوص اتفاقية الطائف عام 1934، ثم نبدأ بجدول الأعمال المطروح.