الاعتقاد السائد بأن دولة الاحتلال الإسرائيلي مازالت خارج طائلة القانوني الدولي، وأنها دولة فوق الشرائع الانسانية بدأ يأخذ طريقه إلى الزوال، ويُطوى كما يطوي عالم اليوم حقبة مظلمة ظلت تسود البشرية على مدى ستين عاما.
السر في هذا الانهيار ليس إلا الجرائم الإسرائيلية التي شهدها قطاع غزة على مدى 22 يوما، وتتبعها العالم على الهواء مباشرة، حيث شاهد الملايين كيف تفرم آلة الحرب الصهيونية اللحم البشري الحي لأطفال ونساء وشيوخ وعجزة، ضمن مشاهد قوبلت في كل جهات الأرض بمشاعر فياضة بالغضب والتنديد لتسقط معها هالة "الدولة الديمقراطية" إلى الحضيض ومازالت تسقط في كل يوم حتى تبلغ الدرك الأسفل.
ورغم مضي أكثر من شهرين على وقف تلك المحرقة الرهيبة إلا أن رائحة الجريمة مازالت تزكم الأنوف، ويبدو أن ما تم تصويره والترويج له إعلاميا على مدى ثلاثة أسابيع لم يكن إلا جانبا من "اكسسوار" المشهد الحربي، بينما ظلت الحقيقة طي الكتمان حتى قيض الله لها من يكشفها، عندما اندفع عدد من الجنود ممن شاركوا في الجريمة بالادلاء بشهادات كشفت النقاب عن فظاعات لا توصف، وممارسات منافية لكل الأخلاق، زادت من حجم الإدانة الموجهة إلى القادة الإسرائيليين سياسيين وعسكريين، ربما كانت لهؤلاء الجنود ضمائر حية، ولكن المؤكد أن دماء ضحايا الجريمة المروعة لا تعدم وسيلة للانكشاف وفضح الجناة ولو بعد حين.
هناك حقيقة أصبحت لا تحتجب على أي أحد، ومفادها أن هذه الاعترافات التي أدلى بها هؤلاء الجنود، وجهت لدولة الكيان الإسرائيلي أعنف ضربة على مر تاريخها، لتبدأ معها منعرجا جديدا سيأخذها تدريجيا إلى نهايتها المحتومة.
وهذا القول ليس ضربا من الخيال فالوقائع التاريخية تؤكد أن انهيار الدول يبدأ بعد أن ينخرها الفساد والجريمة من الداخل وهذان الشرطان متوافران في إسرائيل ولا يحتاجان إلى دليل.
بسؤال هادئ، كيف يمكن أن نفسر اندفاع عدد كبير من الجنود الإسرائيليين إلى الاعتراف بجرائم حرب ارتكبها بعضهم وبأمر من قادتهم المباشرين، وفضحهم لممارسات لو وقعت في دولة أخرى لاعتبرت نوعا من الخيانة وإفشاء لواحد من الأسرار العسكرية التي تستوجب الإعدام مباشرة؟
الجواب بلغة أهدأ، لا يخرج عن مسلمة أن الجيش الإسرائيلي الذي كان فيما مضى "لا يقهر" بدأ يجني قطاف جرائمه، قطافا مجللا بالخزي والعار، وقدم برهانا ساطعا على نهاية الطريق أمام هذه العصابة المنظمة التي بغت على مدى نحو سبعين عاما منذ كانت ميليشيات متفرقة في فلسطين المحتلة أواخر ثلاثينيات القرن الماضي.
إن اعتراف الجنود الإسرائيليين بجرائمهم أفظع من الجريمة بحد ذاتها، فهذا يدل، من ناحية، على أن ما وقع في قطاع غزة أكبر من أي وصف، ومن ناحية أخرى هو تزكية لكل الدعوات الدولية لمحاكمة المجرمين المسؤولين عن دم أكثر من 1400 شهيد وآلاف الجرحى.
ولعل العالم الذي صعق من شرقه إلى غربه سيزداد تألما من الاعترافات، وسيرفض أي تسويف لملاحقة المجرمين أينما كانوا، ويسحب البساط من تحت أي مبادرات قد تهدف إلى حماية كلاب إسرائيل المسعورة، لاسيما بعد أن اتضحت أركان الجريمة وتبينت تفاصيلها.
العالم الحر الذي لا يتورع عن إدانة الجرائم ضد الانسانية عليه أن يضع مبادئه على أرض الواقع، ومثلما تمت نهاية الحرب العالمية الثانية ملاحقة مجرمي الحرب النازيين واليابانيين، وأقيمت في التسعينيات محكمة مجرمي الحرب الخاصة بيوغسلافيا ومحكمة خاصة أخرى برواندا، ليس هناك ما يمنع من إقامة محكمة خاصة بمجرمي الحرب في غزة، طالما أن الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش اعترفت بأن العدوان على غزة تضمن جرائم ضد الانسانية وطالبتا بتحقيق دولي موسع.. وأي عاقل وصاحب ضمير حر يتأكد من أن أربع تهم على الأقل تلاحق الطبقة الحاكمة في إسرائيل حاليا، وهذه التهم حسب القانون الجنائي الدولي هي جرائم الحرب، والجرائم ضد الانسانية وجريمة الابادة وجريمة العدوان، وهذه التهم الأربع لا تحتاج إلى أدلة.
لقد تصاعد في الأسابيع الأخيرة الاهتمام بملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين، حتى أن الإدارة الأمريكية طالبت حليفتها الاسرائيلية باجراء تحقيق في احتمال ارتكاب جرائم حرب، وهذا التصعيد يتزامن مع تزايد عدد الجنود الذين يدلون بشهاداتهم بعد الخدمة في الحرب.
هذه التحركات تنزل بردا وسلاما على قلوب مئات الآلاف من الفلسطينيين الجرحى والمجوعين، ويعتبرونها فرصة ذهبية للقصاص من قاتليهم، ويلتمسون من كل الضمائر الحية على امتداد العالم ولا سيما أوروبا مساعدتهم على ملاحقة مجرمي إسرائيل، خصوصا وأن دول الاتحاد الأوروبي تحكمها قوانين تمنع استقبال مجرمي الحرب، وتقضي باعتقالهم إن مروا من أجوائها أو نزلوا في أراضيها.. لكن رغم هذه البشائر، بالنسبة للفلسطينيين، إلا أن المؤسف أن أشقاءهم العرب مازالوا لم يتحركوا، ويبدو أنهم لن يتحركوا، مع العلم أن أحد زعمائهم هو الرئيس السوداني عمر البشير مطلوب إلى محكمة العدل الدولية بتهمة غير موثقة هي جرائم الحرب في دارفور.
العرب لم يتحركوا يوم قصفت غزة وذبحت، واقتصرت تحركاتهم على تصريحات طنانة هنا وهناك ومساعدات لم يصل أغلبها إلى مستحقيها، كما أنه لا يبدو عليهم أي مؤشر لتحرك رسمي على المستوى الدولي لجر قادة إسرائيل لمحاكمة تشفي الصدور.