حسن الرشيدي
قصة اختطاف وحبس غلعاد شاليط حتى الآن هي خلاصة قصة إسرائيل في بداية القرن الواحد والعشرين.
هذا كلام الصحفي الإسرائيلي الشهير أمير أورن معلقا على التفاعلات السائدة الآن في إسرائيل بعد فشل آخر جولة في مفاوضات تبادل الأسرى بين إسرائيل و حركة حماس .
فمنذ أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في عام 2006 أثناء عملية فدائية قام بها مقاتلون ينتمون إلى مجموعة فصائل فلسطينية والنقاش الحاد داخل الأوساط السياسية و الإعلامية في إسرائيل يتصاعد وتعلو نبرته ويكشف عن انقسام حقيقي داخل النخبة الإسرائيلية في الدولة اليهودية عن حقيقة الفكر الذي تتكون على قاعدته هذه الدولة و مكونات هذا الفكر .
و تعود و تتجدد ثم تنزوي و تتراجع هذه الجدلية مع كل مرة تتجدد فيها المفاوضات و المساومات على إطلاق سراح هذا الجندي . و كانت آخر هذه الدورات بعد حرب غزة و عودة مفاوضات التهدئة و فتح المعابر حيث اشترطت الحكومة الإسرائيلية لفتح المعابر و إنهاء حصار غزة إطلاق حركة حماس التي تسيطر على القطاع سراح شاليط بينما حماس ترى أن فتح المعابر و إنهاء الحصار مرتبط بالتوقف عن إطلاق الصواريخ على ما يعرف بجنوب إسرائيل بينما تبقى قضية الإفراج عن شاليط مرتبطة بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية فإطلاق شسراحه في نظر حماس لن يتم إلا إذا وافقت إسرائيل على تلبية شروطها في إطلاق الأسرى من حيث العدد و نوعية الأسرى .
هناك داخل الفكر السياسي الإسرائيلي مدرستان : أحدهما تقول إن إطلاق سراح شاليط هو تثبيت لفكرة من بين عدة أفكار تؤسس لدولة إسرائيل ...هذه الفكرة تقوم على فكرة الحلف بين الشعب اليهودي و جيش إسرائيل و توضح شيلي يحيموفيتش النائبة في الكنيست عن حزب العمل هذه الفكرة و تقول في منتهى الحزم جلعاد شاليط يجب أن يكون في البيت هذا هو الشرط الأساسي لمجرد وجودنا هنا كمجتمع إسرائيلي.فهذه النائبة البرلمانية الإسرائيلية ربطت بين شاليط و الوجود الإسرائيلي ككل و تتابع هذه النائبة قولها مصير هذا الفتى يلمس الأفكار الأولية بوجودنا هنا في دولة إسرائيل. هذه أفكار من دونها لا يوجد مبرر لهذا الوجود.
و لكن كيف ذلك أي كيف يرتبط مصير شاليط بمصير وجود إسرائيل؟
تفسر النائبة ذلك بأن الأهالي الذين يبعثون بأبنائهم إلى الجيش يعقدون حلفا غير مكتوب مع الدولة. وهم يعرفون أن أبناءهم قد يعرضون حياتهم للخطر ولكن في نفس الوقت يعلمون علم اليقين بأنه إذا استلقى جريحا في ميدان المعركة فان رفاقه وقادته سيفعلون كل شيء كل شيء حقا كي ينقذوه ويعالجوه.إنهم يعرفون بأنه إذا ما سقط ابنهم الجندي لا سمح الله في اسر العدو فان الدولة ستفعل كل شيء كي تستعيده. و تشدد النائبة الإسرائيلية على أن هذا هو الحلف غير المكتوب بيننا وبين الجيش ومع انه غير مكتوب إلا انه أساس أسس وجود المجتمع الإسرائيلي ولا ينبغي خرقه. فالمس من وجهة نظرها بهذا الحلف هو مس بالفكرة الإسرائيلية بعنصر التماسك والثقة الأساسي وكتحصيل حاصل من ذلك مس بأمن الدولة وبنسيجها الاجتماعي. و حسب النائبة الإسرائيلية إذا ما أهدرت الفرصة اليوم في أن يعاد إلينا جلعاد شاليط فان من شأن الشرخ الذي سبق أن وقع في الحلف غير المكتوب هذا أن يتسع إلى هوة كبيرة. محظور علينا أن نترك هذا يحصل.
و تشن النائبة الإسرائيلية على منطق المساومات الذي يحدث الآن و تقول تعابير الثمن و الجدوى هي بالذات التعابير التبسيطية بل والمتخلفة في هذا الحوار وينبغي التحفظ منها بعمق.فإعادة جلعاد شاليط في نظرها ليست صفقة وبالتأكيد لا ثمن لها. هذه كلمات مأخوذة من لغة التجارة صدى لنهج اقتصادي يقاس فيه كل شيء بتعابير الربح والخسارة. بل تلوح النائبة الإسرائيلية بأن هذه مؤشرات الفساد في المجتمع الإسرائيلي الذي يتنكر لقيمه ويقدس المال والربح.فإعادة جلعاد شاليط ليست موضوعا تجاريا أو رياضيا تقاس فيه حياة جندي واحد مقابل الاحتمال الرياضي في أن يحدث المخربين الذين سيحررون مقابلهم وربما في يوم من الأيام سوف يمسون مواطنين آخرين من بيننا.
أما المدرسة الثانية في الفكر السياسي الإسرائيلي فإنها لا تريد تحرير شاليط بأي ثمن و تستند إلى فكرة الصمود حتى لا يظهر الشعب الإسرائيلي بأنه فقد قدرته على الصمود التي تميز بها و يعبر عن هذه الفكرة أيهودا بن مئير في صحيفة هآرتس و يقول واجب كل مواطن أن يتمعن بثمن الخضوع جيدا فإن وافقت دولة إسرائيل حقا على إطلاق سراح 450 مخربا كلهم أو تقريبا كلهم الذين يظهرون في قائمة حماس أي تلبية كل شروط هذا التنظيم ودفع كل ما يطلبه له فهذا ثمن يصعب تحمله. ومن المهم جدا توضيح الأمور حتى لا يقول احد بعد أن تتم الصفقة وبعد أن نجرب على جلودنا النتائج الجسيمة المترتبة على هذا الاستسلام المخزي بأنه لم يعرف إن الأمر على هذا النحو. فالكاتب الإسرائيلي يعتبر تمرير صفقة شاليط استسلام لحماس بالإضافة إلى أنه يسهل وقوع عمليات إرهابية بالمفهوم الإسرائيلي مستقبلا و يقول لا يتعلق الأمر بالثمن الكامن في مجرد إطلاق سراح المخربين القتلة تعزيز قوة حماس والمس بقدرة إسرائيل الردعية وإلحاق الأذى بمشاعر العدالة وعواطف مئات الآباء و الأمهات الثكالى و الأرامل و الأيتام من ضحايا الإرهاب والمخاطرة بموجة إرهابية جديدة في المستقبل و إلحاق ضرر فادح في مكافحة الإرهاب و أولئك الذين يخوضونها. هذا الثمن الذي هو ثمن صعب وشديد الوقع سنضطر لدفعه على أية حال ومن الواضح من الآن أن إسرائيل مستعدة وعن حق أو من دون حق لدفعه. ولكن هناك فرقا جوهريا عميقا بين إطلاق سراح مئات المخربين وبين الخضوع المطلق لإملاءات حماس.
ويعتبر الصحفي الإسرائيلي أن هذا ثمن يدفع على المستوى المعنوي - النفسي والرسالة التي يتضمنها بالنسبة لحماس وللمنظمات الإرهابية الأخرى ولإيران والفلسطينيين والعرب جميعا في المنطقة كلها. الرسالة هي إن هذا الشعب الإسرائيلي عرضة لأي ابتزاز وان ضعف العزيمة ووهن العقل قد تفشيا به وانه فقد قدرته على الصمود التي تميز بها. هذا الخضوع سيزيد من قوة حماس بدرجة لا توصف وسيجر من ورائه موجة من عمليات الاختطاف سواء في البلاد أو في الخارج. الخضوع لكل مطالب حماس سيزج بإسرائيل في رواق انزلاقي نهايته معروفة.
و هكذا يتصاعد هذا النقاش في الأوساط الإسرائيلية الذي يكشف عن انقسام حقيقي في إسرائيل من يرى أن إسرائيل لم تقم و لن تستمر إلا بوجود قوة عسكرية كبيرة و هي الجيش الإسرائيلي و هذه القوة يجب أن يأمن أفرادها على أنفسهم حتى و إن وقعوا في الأسر فإن الدولة لن تتخلى عنها و بين من يرى أن لابد من لإسرائيل الصمود في وجه أي تحديات و حتى لا تكتسب المنظمات الإرهابية في نظرهم مثل حماس أي شرعية أو مكسب سياسي و يبدو أن الغلبة حتى الآن لهذا الفريق .
istratigi@hotmail.com