وبعد أن أنهيت زيارتي للأردن بمقابلة جلالة الملك حسين كلفت بالذهاب إلى مصر لمقابلة الرئيس أنور السادات، لكي أشرح له أهمية التغيير وأسبابه، وكان الرئيس السادات متأثراً ومتألماً جداً لما حدث في اليمن، واضطررت أن أنقل له الصورة التي بلغت بها لكي أحافظ على توازني وعلاقتي بالقيادة الجديدة، بنصيحة من الشهيد محمد أحمد نعمان الذي اعتقد أن بقائي في الموقع القيادي سيكون لي تأثير فيهم، ويخفف من المضاعفات التي حدثت أخيراً، ولأني ما زلت في منصبي العسكري، ولم يصدر قرار بتغييري فمن الواجب أن أعمل بتوجيهات القيادة الجديدة، وأكون متفاعلاً مع الحدث سياسياً لكي "لا أتهم" بأني معارض، وكنت واثقاً من نفسي أنني إذا عدت إلى مركزي العسكري، فإنني سوف أؤثر في القرار السياسي ولا تصير الأمور إلى ما صارت إليه، لقد كانت الأحداث مؤلمة ومحزنة حينما نستعيد ذكراها لنعود إلى أحداث تاريخية أعاقت الوطن وأعادت الانقلابات والبيانات الفارغة من المحتوى الوطني، والسلطة في اليمن ليست مغنماً بل مغرم عند الشرفاء الذين يعيشون لقضية وطنية. لقد عانينا من ظلم الإمامة والتخلف والحروب التي واجهتها اليمن، وهو ما يجعل المسؤول القيادي يشعر بجسامة المسؤولية، لأنه يتحمل فوق طاقته وقدراته، لهذا كنا لا نكترث بالتغيير، لأننا آمنا بالديمقراطية أحد أهداف الثورة السبتمبرية الذي ينص "على بناء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل، مستمداً أنظمته من روح الإسلام الحنيف"، هذا الهدف العظيم تحقق أخيراً بقيام المجلس الوطني ثم مجلس الشورى وانتخاب أعضاء المجلس الجمهوري وممارسة العمل الديمقراطي في تلك المرحلة.
وهو النهج الديمقراطي الذي يجب أن يسلطه كل الساسة ومن يدير شؤون البلاد. والحكمة الرائعة للقاضي الرئيس عبدالرحمن الإرياني التي كان يرددها دائماً قوله: "الديمقراطية أو المذابح" هذه العبارة عميقة المعنى تدل على أن الديمقراطية هي النهج الصحيح الذي يحافظ على سلامة الوطن من الصراعات والطموحات الدموية غير المشروعة.
حكمة الرئيس الإرياني
إن قراءتنا للتاريخ اليمني تؤكد أن الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة هما البديل عن المذابح، وهذا ما قاله حكيم اليمن الراحل القاضي الرئيس عبدالرحمن الإرياني، وما حدث بعد انقلاب 13 حزيران/ يونيو 1974م والأحداث المروعة التي أدت إلى اغتيال رؤساء في الشمال والجنوب دليل على ذلك، هذا هو الشيء المهم الذي أدركته مبكراً ومن يعمل في العمل السياسي يجب ألا ينظر إلى أن الحكم مغنم بل هو مغرم ولا سيما أن الصورة كانت لدي واضحة حينما علمت من وزير الأشغال السوري بالانقلاب، لقد قلت له: من ذا الذي ينقلب على نفسه؟ إذا كان الانقلاب من القيادة التي تحكم البلاد، فإن النتيجة ستكون وخيمة عليهم، لأن الانقلاب لم يكن بتآمر من خارج السلطة أو جهات خارجية، بل من القيادات المشاركة في الحكم، ولها موقف من سياسة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني لمواقفه وصلابته في محافظته على سيادة البلاد وعلى مكانتها ومصالحها. وحينما ذهبت في زيارة رسمية إلى السعودية والأردن ثم العراق لكي نشرح للإخوة العراقيين أن بعض الشباب يحاولون أن يحدثوا انقلاباً بعثياً في اليمن، وكنت غير متأكد من صحة هذه المعلومات، لأن مصدرها المرحوم إبراهيم الحمدي ومحمد خميس رئيس جهاز الأمن الوطني والأخ المرحوم عبدالله بركات، وربما كان ذلك تتويهاً وتمويهاً لما سوف يحدث في 13 حزيران / يونيو 1974م، وفي الوقت نفسه لصرف النظر بأن جهات أخرى ستقوم بالانقلاب.
وهو نوع من التضليل ولهذا فإنني أؤكد أن لا صحة لتلك المعلومات مطلقاً، لقد ذكرت سابقاً بأنه كلفني قائد حركة 13 حزيران/ يونيو 1974م إبراهيم الحمدي بالذهاب إلى القاهرة لمقابلة الرئيس أنور السادات لكي أطلعه على أسباب الانقلاب ، وتحدثت في الصحف المصرية والعربية لأسوغ قيام الانقلاب، وحاولت جاهداً البحث عن حجج واهية غير مقتنع بها، لكني كنت أعمل بنصيحة الأخ المرحوم محمد أحمد نعمان ونصيحة القاضي عبدالرحمن الإرياني اللذين بلّغاني بأن عليك أن تعمل على تعزيز الثقة مع إخوانك وزملائك، لكي تشارك وتظل في منصبك القيادي ويكون لك دور فاعل في كبح جماح الطموحات، لأن إخوانك يقدرونك، ربما كانوا يحسنون الظن بأنني سوف أساهم في إصلاح الأوضاع بشكل لا يثير قلقاً على أحد ولا يدين أحداً ولكي لا تعلق الأخطاء كلها على شماعة النظام الذي انقلبوا عليه ويدينوا الوضع السابق، وكنت أدرك هذا الأمر ولا سيما حينما لم يوافق الرئيس المقدم إبراهيم على عودتي إلى صنعاء بعد أن بلغته بأنها مهمة مكلف بها في مصر وتأخرت الموافقة من الرئيس الجديد إبراهيم الحمدي وعدت بقرار مني، وتحملت مسؤولية بعد محاولتي الاتصال بالرئيس إبراهيم الحمدي، ولم يرد. بعدها اتصل الأخ يحيى المتوكل -رحمه الله- عضو مجلس القيادة الجديد الذي أبلغني أن رئيس مجلس القيادة كلفه أن يبلغني بالتريث، فأحرجني جداً ولا سيما بعد تصريحاتي بأني مكلف بمقابلة الرئيس السادات لشرح الأوضاع الجديدة في اليمن، وبعد المقابلة والتصريح أصبحت مقيماً في القاهرة!. وهذا الوضع لا أستطيع تحمله احتراماً لبلدي ومكانتي.
التوقف في المطار
بعد أن هاتفني الأخ يحيى المتوكل وطلب مني التريث بناءاً على طلب الرئيس قررت العودة إلى صنعاء متحملاً كل التبعات التي ستترتب على عودتي من دون موافقة القيادة الجديدة لأني ما زلت رئيساً للأركان، والإذاعات والصحف تنشر أخبار رئيس الأركان اليمني، وكنت متأكداً بأني مبعد عن منصبي بعد الانقلاب ، ولكني ما زلت أستخدم هذه الصفة الشرعية حتى يصدر قرار بتعيين آخر في موقعي، وحينما وصلت صنعاء من دون موافقة رئيس مجلس القيادة، صدرت توجيهات بأن أتوقف في مطار صنعاء، فرفضت التوقف وحصل بيني وبين أحد الإخوان المكلفين بهذه المهمة مشادة.
وقد كان في استقبالي عدد من الضباط في مقدمتهم الأخ المرحوم علي الشيبة الذي سعيت في تعيينه قائداً للقوات الجوية بدلاً عن الأخ محمد الشائف جار الله بعد أن قم استقالته، وندمت بالتسرع في قبول استقالته، وكنت غير موفق في قبول استقالته ورشحت المرحوم علي الشيبة خلفاً له، فصدر قرار القائد الأعلى بتعيين علي الشيبة خلفاً له.
بلغني بأن أنتظر حتى صدور تعليمات ، ورفضت هذا الإجراء، وتكلمت من موقع منصبي الشرعي فقلت له: أنت ضابط وأنا رئيس الأركان عليك أن تفتح مكتبك انتظر فيه حتى تصل التعليمات، وبكل ثقة مارست سلطتي رغم يقيني بأني جزء من التغيير.
إن الانقلاب هو على الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني والأستاذ أحمد محمد نعمان والعقيد محمد الإرياني، والشهيد محمد أحمد نعمان والدكتور حسن محمد مكي رئيس الوزراء وعدد آخر من الساسيين الشرفاء والعقلاء الذين كانوا يمثلون في تلك المرحلة صمام الأمان لمنع الانقلابات وسفك الدماء، وكنا نعمل على بناء القوات المسلحة لحماية الوطن والدفاع عنه، وأن تكون علاقتنا الخارجية مع الدولة جيدة،والحصول على الإعانات للتغلب على الفقر والتخلف الذي نعانيه وحكومة الدكتور حسن مكي رئيس الوزراء مهتمة ومدركة لاحتياجات اليمن لكي نتخلص من دعم الميزانية الذي ذكرته، وهي خطة الدولة والحكومة وكانت الميزانية لعام 1975م من دون دعم خارجي وتكون المساعدات لمشاريع تنموية وخدمية، كانت سياسة الحكومة طموحة لكي تكون الميزانية معتمدة على إيراداتها، وتكون المساعدات الخارجية لبناء المشاريع من طرقات وغيرها.
وكان استعجالي في العودة لأني حريص أن أصل إلى صنعاء، في وجود القاضي الرئيس عبدالرحمن الإرياني ما زال في تعز، وكنت مؤملاً أن يبقى فيها لما يتمتع به من علاقة حسنة مع كل المواطنين، ربما يكون بقاؤه للنصيحة وللمشورة أفضل من مغادرته. وكذلك وجودي في القيادة ربما سيكون للحد من الطموح والاقتتال والعمل على عودة العسكريين إلى مواقعهم الطبيعية، وتستمر المسيرة الديمقراطية تنفيذاً للتصريحات الصادرة من مجلس القيادة وقد كررته في الصحف الأردنية والمصرية، ولكي نشارك في صنع القرار، لأننا لسنا دخلاء على النظام ولا على الزملاء كنا سنفرض رأياً بأن يعود العسكريون إلى ثكناتهم، وأن يمارس مجلس الشورى مسؤوليته، وربما كان التخوف مني لهذه الأسباب، لأن الزملاء يعرفون رأيي، ولهذا صدر قرار عاجل بتعييني سفيراً في مصر، حضر الأخ مجاهد أبو شوارب الذي كلف باستقبالي في المطار من الرئيس إبراهيم الحمدي بعد أن ظللت في المطار مدة ساعتين وشرح لي موقفه وما كان يقول!!
لقد كان الرئيس منفعلاً ومتألماً وخائفاً من عودتي، كما سمعت تلك العبارات من الأخ مجاهد الذي خفف من انفعالات الأخ إبراهيم وأكد له أنه بمجرد صدور قرار بتعييني سفيراً في الخارج فسوف أغادر صنعاء.