اللقاء بالحمدي
رافقني الأخ مجاهد إلى منزلي ، وكان كريماً شريفاً كما هو معروف عنه، وبعد الظهر حضر إلى منزلي الشيخ أحمد علي المطري ومعه الأخ مجاهد ، وكان متألماً من الطريقة التي عوملت بها وقال له : يا مجاهد نحن انتهينا اليوم بعد خروج الأخ حسين المسوري. . هذه الكلمات الواعية والمدركة أعتز بها، لأني سمعتها من شخصية وطنية لديه بعد نظر وثقافته السياسية واسعة ، ولم يكن طامحاً ولا طامعاً. بل يعشق اليمن ويعمل من أجلها، وهذه الشهادة يقولها كل من عرف ذلك الرجل المتواضع العظيم بتلك الكلمات الصادقة الواعية المدركة، تنبأ بكل الأحداث بعد ذلك، وأحداثها وحينما تسجل ستكون في عدة مجلدات.
وبعد ذلك اللقاء الحزين توجهنا إلى الأخ إبراهيم الحمدي في القيادة وسلمت عليه وهو منفعل متأثر والدموع في عينيه، وأبدى أسفه لما حدث في المطار، وأن الظروف أوجبت عليه هذه الإجراءات، وسألني: لماذا أتيت من دون موافقة؟ قلت: أتيت لكي أقدم نفسي لرئيس مجلس القيادة ورئيس الدولة الجديد. ثم وجه كلامه للأخ مجاهد قائلاً: يمكن أن تسمح لنا يا مجاهد؟ خرج مجاهد من المكتب وجلست مع إبراهيم الحمدي لسماعة، وهو يحكي قصة الانقلاب، قلت له: المهم جئت أقدم نفسي إليك ، ولدي وثائق مهمة وتقارير وخرائط مهمة جداً في مكتبي أريد أن أسلمها لك ، تفضل هذه مفاتيح الخزائن فيها كل الوثائق التي تهم القوات المسلحة. ولحرصي على تسليم الوثائق ها أنذا أسلم المفاتيح إليك، لأنها تخص العلاقات الخارجية مع الدول المجاورة وغيرها، ومنها اتفاقيات عسكرية، لأنها أمانة ومسؤولية، أما الحكم فالله يعينكم ويوفقك أنت والأخوان، والمرحلة طويلة، وإن شاء الله يتحقق الخير على أيديكم جميعاً ذرف دموعه مرة ثانية، وتعانقنا وجاء مجاهد في المرحلة الثانية للمعانقة، شاهد الدموع فقال: هذا شيء محير! أنا لا أعرف ما بينكما؟ قلت: ستعرفه في المستقبل إن شاء الله يا أخ مجاهد!. .
سفير في مصر
صدر قرار تعييني في يوم ووصولي صنعاء، وطلبوا من السفير المصري أحمد عبد الحي سرعة الموافقة على الترشيح، وفي الليلة نفسها وافقت مصر على تشريحي وهذا شيء أعتز به جداً، وهو ما لم يحدث لأحد من السفراء، وفي اليوم الثاني غادرت صنعاء وخرج إبراهيم الحمدي لوداعي إلى المطار! وكان متأثراً، وبكى مرة ثالثة! وهو يودعني مع عدد من الإخوة الزملاء ومنهم المقدم الوفي محمد عبدالله أبو لحوم الذي ذرف دموعه الصادقة المتأثرة على إبعادي، والزملاء الذين بيني وبينهم كل المحبة والإخلاص والتعاون والوفاء عبر السنوات التي عشناها معاً من عام 1962م إلى عام 1974م.
كان معظم القادة العسكريين في وداعي وفي مقدمتهم الرئيس إبراهيم الحمدي رئيس مجلس القيادة وعدد من الإخوان المشائخ، وتركت اليمن ولدي الصورة أن المستقبل سيكون مظلماً، وسوف يختلف الانقلابيون في وقت قصير وحينما نقرأ ما حدث بعد 13 حزيران/ يونيو 1974م من صراعات بين الأصدقاء والزملاء على الحكم، كان لدي يقين أن الزرع الذي زرعوه شيطاني،سيثمر في غير موسمه نباتاً شيطانياً مشوهاً. .
وإن الأيام والشهور القليلة ستؤكد توقعاتي بحدوث خلافات مأساوية شوهت صورة اليمن.
في القاهرة
مارست عملي سفيراً محترماً للدولة والنظام، واجبي أن أعمل بما يمليه علي ضميري ، وباحترام الدولة ومؤسساتها، وفي مقدمتهم الرئيس إبراهيم الحمدي،وكنت أتابع الأحداث من خلال المراسلات مع الزملاء والأصدقاء. . وكان إبراهيم الحمدي نفسه يتواصل معي وكل زملائه المشاركين في الحركة، والجميع يشكون من المسؤولية وصعوبتها ومتاعبها وأهوالها. . ، وكنت أقرأ كل ما يصلني وأتابع تفاصيله.
وكانت أول رسالة تصلني من الشيخ سنان أبو لحوم الذي أبدى ندماً مراً وشكا كثيراً من الأوضاع والصعوبات التي يواجهها ، وكذلك سمعت من العميد مجاهد أبو شوارب الذي حضر إلى القاهرة للمشاركة في جنازة المشير أحمد إسماعيل، حديثاً صادقاً عن سوء الأوضاع.
وشرح الوضع بعد الحركة وقال: قمنا بالحركة والآن نحن نعاني من إشكالات داخلية. طبعاً كان لديه كبرياء في البداية، ولم يفصح عن كل المواقف الخلافية التي حدثت فيما بينهم، ويدرك بأن لدي معرفة بتركيبة الانقلابيين، ولكي لا أشمت بهم كنت حريصاً على الوطن وعليهم، ولم أفكر في شيء غير ذلك.
النعمان وسنان يتصارحان
كان الشيخ سنان أبو لحوم في القاهرة وشارك في جنازة المرحوم أحمد إسماعيل، والتقى بالأستاذ أحمد نعمان، وكان سنان يشكو الأوضاع ،وقال: "لقد ارتكبنا خطأ فادحاً، وانتقمنا من أنفسنا دون أن نعلم!"، وفي نقاش مع الأستاذ نعمان دام أربع ساعات شرح الشيخ سنان الصورة القاتمة التي يراها، وكان واضحاً فيما قاله،قال: "ارتكبنا خطأ فادحاً ونستحق العقاب" ، وطلب المشورة من الأستاذ أحمد محمد نعمان ، لأن علاقة به كبيرة بينهما مواقف مشتركة عبر مراحل الحركة الوطنية ، فكان يتهرب من الإجابة الجدية بأسلوبه المميز ولباقته النادرة.
وكان الشيخ سنان يسأل : وما الحل؟ وقعنا في ورطة يا أستاذ، وما الحل في رأيك؟ أجاب الأستاذ أحمد محمد نعمان: أنتم صنعتم الحدث وعليكم أن تفكروا فيه. وبعد حوار طويل لم يبد رأياَ ولا مشورة وعدنا إلى منزل الأستاذ.
وكرر الشيخ سنان في حديثه أن السلطة والحكم والقرار أصبحت في يد إبراهيم الحمدي الحاكم الأوحد ، ونحن أصبحنا لا شيء، وغدونا خائفين على أنفسنا، لأن إبراهيم الحمدي قوي ولا يعترف بأدوارنا، وصار هو القائد والزعيم ومؤسس عهد 13 حزيران / يونيو.
ولم يكن لدى الشيخ سنان أي بدائل، إلا أنه وقع في ورطة وفي غلطة، ويبحث عن الحل ثم قال: يا أستاذ أربع ساعات من النقاش ولم نسمع منك رأياً ولا مشورة! أجابه الأستاذ أحمد محمد نعمان: يا شيخ سنان لا أخطئ ما عملتموه، ربما يكون فيه التوفيق والنجاح، وعليكم أن تتعاونوا مع إبراهيم الحمدي لأنكم قمتم بهذا الانقلاب، وأنتم تعرفون عواقبه. أقول لكم كلمتين: حينما كنتم قوة لنا أنتم المشائخ كنا نحكم، وحينما أردتم أن تجمعوا بين القوة السيطرة على الحكم والانفراد، أصبح هذا وضعكم، صرتم مهددين، وعليكم أن تفكروا في إصلاحه كما فكرتم في الانقلاب. وكان الأستاذ أحمد نعمان بحواره السياسي ودهائه قد وضع الشيخ سنان وغيره، لأنهم جحدوا أدواره وتاريخه النضالي. وأخيراً بعد النقاش الطويل قال الأستاذ: اسمع يا شيخ سنان أنتم المشائخ قوة لأي نظام، لكن تظلون في حدود القوة التي تحافظ على النظام وعلى استقرار الدولة وعلى الأمن، أما أن تتمسكوا بالحكم وتمسكوا القلم وتديروا الدولة من دون خبرة فهذه هي المأساة الكبيرة، ومن ثم أنصحكم بأن تؤمنوا بأنكم قوة الدولة، للمحافظة على الاستقرار والأمن، أو أن تكونوا حكاماً وتحصدوا نتائج أعمالكم، ولا يمكن أن يقوم نظام في اليمن وأنتم تتمتعون بالحالتين، وحينما يكون أبناؤكم مؤهلين ومتعلمين يمكنهم أن يحكموا طبقاً لمؤهلاتهم في المواقع الوظيفية التي يستحقونها، أما تأسيس دولة اقتصاد وبناء إدارة فلا بد أن يكون هناك من هم مؤهلون للحكم.
واختتم الأستاذ كلامه قائلاً: عليكم أن تتعاونوا مع النظام، وتحافظوا على الرئيس الحمدي وتكونوا بجانبه ومعه، لأنكم قد قمتم بالانقلاب وقبلتم بعودة النظام العسكري، وأصبح الرئيس إبراهيم الحمدي زعيمكم ورئيسكم. وافترق الشيخان دون اتفاق ودون نصيحة جادة، بل كان معظم الحوار بينهما بعيداً عن النصح، قرارات باختصار مجلس القيادة ثم إقالة الحكومة، وكذلك إزاحة الأخ المقدم علي أبو لحوم وإخوانه، وأخيراً القشة التي قصمت ظهر البعير إقالة الأخ العميد مجاهد أبو شوارب وتفجر الصراع وانتهى التحالف بين الرئيس إبراهيم الحمدي والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر.
لقد كان الرئيس إبراهيم الحمدي يزيح رجال 13 حزيران/ يونيو من مراكز السلطة، وهذا هو المتوقع من بداية الحركة، أن المنقلبين سينقلبون على أنفسهم.
وكان القاضي الرئيس عبدالرحمن ومن معه من رجال الدولة يعرفون هذه الصورة المحزنة والمؤسفة التي ظهرت قبل 13 حزيران/ يونيو وبعدها الشيخ سنان أبعد من سلطة القرار في الأسبوع الأول للحركة، وخابت آماله في السيطرة على النظام والدولة، وهو من يتحمل نتائج الأحداث المؤسفة التي كانت سبباً في الإخفاقات التي عانت منها اليمن خلال تلك المرحلة.