وبدأ الخلاف بين الرئيس والشيخ عبدالله، وظهرت نوايا الرئيس التي كان يفكر فيها قبل حركة 13 حزيران / يونيو التي ذكرتها، وحينما كنت أنصحهم كانوا يرون أنني متضرر، والنصيحة أحياناًً لا تجد لها أذناً صاغية، وأشق شيء على الإنسان قبول النصيحة، ولم يكن عند الشيخ عبدالله قناعة بالخلاف مع الرئيس إبراهيم الحمدي من أجل إقالة الحكومة، وإخراج آل لحوم من الجيش، وربما يتمنى أن يخرجوا من السلطة، لتخوفه من سيطرة البعث كما جاء في مذكراته.
كان الشيخ عبدالله يأمل أن يكون إبراهيم الحمدي الواجهة في رئاسة الدولة، وهو يوجه الرئيس وينفذ أوامره وتعليماته، لأنه تعوج على المشاركة في صنع القرار مع القاضي عبدالرحمن الإرياني ومع الرئيس السلال ومع رؤساء الحكومات ممن كانوا يستمعون لما يقوله، ولو على مضض! فهم يحترمونه لتاريخه النضالي، وتاريخ والده وأخيه الشهيد حميد، ولقبيلة"حاشد البطلة" التي لها دورها في تثبيت النظام الجمهوري والدفاع عن الثورة والرئيس إبراهيم الحمدي كان مدركاً لهذا الوضع قبل انقلاب 13 حزيران/ يونيو، وكان يردد دائماً: متى نتخلص من هؤلاء؟ إذا تخلصنا من الشيخين عبدالله وسنان سوف تصلح البلاد.
وحينما أصبح رئيساً للبلاد وبيده السلطة بدأ ينفذ ما كان يقوله في وقت مبكر، والشيخ عبدالله ظن أنه سيبقى مطيعاً له طبقاً للعهود والوعود. . . والإيمان التي تعهد بها قبل الانقلاب.
مجاهد في القاهرة
ومن التصرفات التي وسعت الخلاف بين الشيخ والرئيس إبراهيم الحمدي أنه أقال الأخ العميد مجاهد أبو شوارب من القيادة حين كان في زيارة للصين، ولم يسمع بأخبار الإقالة. ولما عاد عن طريق القاهرة استقبلته في المطار ، وأخبرته بالتغيير، وكنت قلقاً أن يصرح أي تصريحات بصفته نائب القائد العام وعضو مجلس القيادة، قلت له كما قال طاهر الزبيري للرئيس الجزائري بن بلّه: "سي أحمد لم تبق أنت رئيساً للجمهورية"، قلت لمجاهد: لم تعد نائباًَ للقائد العام، لا تتسرع بأي تصريح من مسؤولية منصبك هذا كنائب للقائد العام وعضو مجلس القيادة لأن الرئيس إبراهيم قد أصدر قراراً بعزلك منه.
بعد سماعه لهذا الخبر المؤلم تأثر جداً، وأصبح في موقف حرج مهما كانت شجاعته وقدرته، فإن رد الفعل السيء ظهر في ملامحه، فاتجهنا إلى الفندق وبينت له أن هذا التصرف من الحسابات الخاطئة التي ارتكبها إبراهيم الحمدي، وخلال الحديث القصير كان الأخ مجاهد منفعلاً وأخذ يبحث معي طريق العودة إلى اليمن، وطلبت منه أن نفكر في هذا الموضوع صباح الغد.
في صباح اليوم الثاني تشاورت معه حول العودة فاقترحت عليه أن يعود عن طريق المملكة، ثم إلى حجة حرصاً على سلامة عودته، ووافق على ذلك لقد علمت بالحوار الهاتفي بين الرئيس إبراهيم الحمدي والشيخ عبدالله الأحمر الذي كان سبباً في خروجه إلى خمر غاضباً من القرارات التي صدرت من الرئيس من دون علمه، واعتبرها مؤامرة عليه.
وعندما وصل مجاهد إلى خمر اتفق مع الشيخ عبدالله على حشد القبائل والمعارضة، واستخدام كل الوسائل في سبيلها، بالإشاعة، بالدعاية، بالتمرد، والسيطرة على المناطق الشمالية من الأزرقين إلى حدود السعودية ومن نقيل ابن غيلان إلى نهاية المشرق الجوف ومأرب، وهكذا تمكنت المعارضة بقيادة الشيخ عبدالله وسنان ومجاهد وغيرهم من السيطرة على المناطق الشمالية والشرقية خلال حكم الرئيس إبراهيم الحمدي.
لقد كانت رؤيتنا ونحن في القاهرة أن المعارضة يجب أن تكون داخل الوطن، وهي التي تقلق الحاكم، وعليهم أن يواصلوا المعارضة ويحسنوا علاقتهم بالإخوة في السعودية، وأن تظل علاقتهم بالجيران وبالأصدقاء علاقة حسنة.
إن التصرفات الخاطئة للرئيس الحمدي تناولت كل الشخصيات السياسية والعسكرية والقبلية في الداخل والخارج، ومنها استدعائي إلى صنعاء وحينما أبلغني وزير الخارجية عبدالله الأصنج بذلك وسألته لماذا؟ قال : الأخ إبراهيم يريدك لأمر ضروري، عليك الوصول بسرعة قبل نهاية كانون الأول / ديسمبر عام 1975م.
لقد ارتكبت غلطة كبيرة حينما وافقت واستجبت للدعوة وكان بالإمكان الاعتذار لسبب شخصي أو عام، لكن الشعور بالمسؤولية واحترام الدولة هما اللذان دفعاني. وعانيت من المتاعب والمشقة بسبب تلك العودة المأسوية.
لم أستمع إلى النصيحة
كان بعض الأصدقاء الأعزاء ومن لهم تجربة كبيرة في العمل السياسي ينصحونني بعدم الخروج، وزارني الأستاذ الكبير أحمد محمد نعمان ومعه الأستاذ صلاح البيطار رئيس وزراء سوريا الأسبق ، ورجواني ألا أستجيب خوفاً علي، كان ردي بأن وزير الخارجية بلغني برغبة الرئيس بوصولي إلى صنعاء وعلاقتي به، ثم رجواني مرة ثانية، وأكد كلامه الأستاذ صلاح البيطار، وهو شخصية عظيمة له من التجارب السياسية ما يجعله يدرك خطورة الاستدعاء، ونصحني بقوله: إن اليمن يعيش حالة اضطرابات وخلافات سياسية، ولا نريد أن تكون ضحية أو منحازاً مع أي طرف.
شكرتهما على النصيحة. وقررت السفر لأنني واثق من نفسي مطمئن لتصرفاتي. وللغرض ذاته زارني الأستاذ محسن العيني أطال الله عمره، وقال لي ما قالاه "ما الداعي؟ لماذا لا تختلق عذراً"؟ أجبته : إنني قد قررت الذهاب إلى اليمن استجابة للاستدعاء ولي الرغبة والحماس والتطلع ، بل والمغامرة الرغبة في المشاركة في العمل الوطني، وأتذكر دائماً ما قال الشابي:
أبارك في الناس أهل الطموح
ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لا يماشي الزمان
ويقنع بالعيش عيش الحقر
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
كانت رغبتي هي الاطلاع على حقيقة الأوضاع بعد الأحداث التي تطورت في وقت قصير لرجال 13 حزيران / يونيو، لأن رأيي في الانقلاب بأن نهايته ستكون سريعة، وسيختلف الانقلابيون فيما بينهم ، لمعرفتي الأكيدة بما يضمره الرئيس إبراهيم الحمدي من حقد وكراهية لزملائه المشاركين في الانقلاب.
قابلت الرئيس الحمدي في منزله وكانت المقابلة ودية. وطلب مني الانتظار ريثما يجتمع بالأمير نوردم سيهانوك في الحديدة، وخلال فترة غيابه اتصل بي المرحوم أحمد الغشمي والمرحوم عبدالله الحمدي وكثير من الأصدقاء يرحبون بوصولي، وكانت النصيحة من الأخ أحمد الغشمي بأن أكون حذراً، وطلب مني ألا أقابل زائراً أو غيره ريثما أقابل الرئيس، وعملت بنصيحته.
وبعد عودة الرئيس إبراهيم قابلته في القيادة فوجدته في حالة صعبة مكفهر الوجه على غير عادته معي، وسألني عدة أسئلة: كيف العمل؟ وما تعمل؟ وكيف علاقتك بالموجودين في القاهرة الذين أبعدناهم؟
وحدد منهم محسن العيني والمشير السلال والفريق العمري والأستاذ أحمد محمد نعمان وغيرهم من الإخوة الموجودين في القاهرة، ولم أخف عنه شيئاً، بأنني استقبلتهم ودعوتهم في كل المناسبات، وتحدثت معهم في بعض الهموم العامة، وقلت له: هذا واجبي لأني أمثلك وأمثل اليمن وهؤلاء هم من رجال الدولة، إذا لم أقم به فسوف أكون سفيراً مقصراً في واجباتي الإنسانية والأخوية. أما العمل السياسي فإني أقوم بواجباتي في حدود مسؤولياتي، وقلت له: لقد أوضحت لك في المرة السابقة حينما سألتني عمن دعوتهم في حفل أيلول/ سبتمبر عام 1974م،وشرحت لك أن الواجب علي بصفتي سفيراً يحتم أن أكون قريباً من الناس الذين يقفون مع النظام أو ضده لكي أساعدهم وأؤمنهم وأطمئنهم ليبقوا على علاقة بالنظام ولا تنقطع شعرة معاوية معهم، وقد أجبت عن كل الأسئلة التي تستحق الرد عليها والتي لا تستحق.
مقابلة قاسية
لم أخف على الرئيس شيئاً من كل اللقاءات مع الشخصيات السياسية التي لها تاريخها في العمل الوطني. وهذا هو مصدر قوتي، وقلت له: كيف أبتعد عن الفريق حسن العمري؟ وأنا السفير، وأنا من أبنائه وعملت معه، وهو رئيس وزراء وقائد عام ؟ كيف لا أتواصل مع القاضي عبدالرحمن الإرياني الذي تعلمت على يديه، والذي حكم اليمن وحقق لها السلام والأمن والاستقرار؟.