بقلم :بدر عبدالملك
تدور المؤسسات العربية الرسمية في حلقات فارغة كالعادة، فإذا ما كانت عاجزة عن فك طوق مشاكلها فيما بينها فإن محنة الرئيس البشير ستبقى كذلك تدور في الحلقات الفارغة دون نتائج مرجوة، فكل ما ستفعله المؤسسات العربية والأفريقية أنها ستكرر اللغة نفسها والبيانات ذاتها: «إن ذلك التدخل تهديد للسيادة الداخلية للدول «بل ولم تخف بعض البيانات عبارة مثيرة للشفقة على حال الدول النامية من حيث قدرتها السياسية على الصعيد الدولي حين تقول إن مثل ذلك التدخل تهديد لسيادة «الدول الضعيفة» فهل بالفعل باتت هناك دول ضعيفة لا تستطيع فك عزلتها وحصارها عن مثل تلك القرارات التي تصدرها المحكمة الجنائية الدولية.
والتي لن تتراجع عن مثل تلك القرارات فهي جزء من مكونات الأمم المتحدة في ملاحقة كل الأشخاص والدول الذين تثبت إدانتهم بارتكاب جرائم الحرب. وما فعله خلال السنوات الثلاث رئيس المحكمة أوكامبو هو أنه أعد كل الأوراق التي تثبت إدانة الرئيس في الأعمال المرتكبة في إقليم دارفور.
وبقدر ما هناك من تهم وأوراق مكدسة في المحكمة فإن على الجانب السوداني أن يتحرر من كل العبارات التقليدية القديمة التي لا يجوز توجيهها لاحدى منظمات دولية في الأمم المتحدة تم انتخابها وتشكيلها من قبل المجتمع الدولي. فهل سنظل ندور في حلقة ترديد نغمة إن مثل هذه المنظمة وغيرها مجرد أدوات استعمارية تخدم مصالح دول معينة؟!
وبدلا من فك عزلة الرئيس بتلك الخطب والاحتجاجات فإن المطلوب بالفعل من منظمات عربية كالجامعة العربية والإفريقية تقدم نفسها كقوة فاعلة في المجتمع الدولي وتبرهن على ان كل ما يتم من ممارسات وانتهاكات إنسانية مجرد أكاذيب ودعايات غربية تستهدف مجتمعاتنا ونظمنا وثقافتنا وهويتنا، وكل ذلك بعيدا عن البيانات الرنانة واللقاءات الفرعية التي ليست إلا ذات وجوه متناقضة لدبلوماسية مرتبكة ليست قادرة على عزل فك طوق البشير من التحليق بعيدا في أجواء حتى إفريقية وعربية، وإذا ما حلقت طائرة الرئيس فإن خط سيره في الفضاء الخارجي يبقى محصورا في خطوط معينة محاولا البحث عن حماية كاملة من الطرف الذي سيزوره.
في لقاء صحافي مفتوح حاول وزير خارجية ورئيس وزراء قطر أن يكرر مسألتين، المسألة الأولى وجود ضغوط على حكومة قطر بعدم دعوة البشير لمؤتمر القمة العربي وبإصرار قطر على حضوره بتأكيد دعمها له. ولكي تبقى المسألة أمنية للغاية، خاصة وان الفضاء الخليجي غير مأمون من قدرة الطيران العسكري الأميركي والأوروبي بالتحليق وبإنزال طائرة الرئيس حتى وان كانت محمية بطائرات عسكرية سودانية وإذا ما تمت الورطة الدبلوماسية وتم اصطياد الرئيس في الفضاء السيادي العربي ومياهه الدولية وتسليم الرئيس لمحكمة لاهاي فإن ذلك بادرة جديدة يدخل فيها المجتمع الدولي في آلية تقديم زعماء دول عربية للمحكمة.
وان كان هناك حالات افريقية والدليل على مخاوف الرئيس البشير من تعرضه من القواعد العسكرية هو حساباته في التحرك الإفريقي مؤخرا، إذ وضع في اعتباره القاعدة الفرنسية في جيبوتي البلد الإفريقي المجاور فلم تكن رحلته إلى أديس بابا محببة، فكانت رحلة اريتريا وليبيا عبر خط محدد نحو سرت ومن هناك تمت الرحلة نحو جمهورية مصر العربية.
في كل تلك الدول لم نسمع عبارات قادرة على تغيير مسارات قرارات المحكمة الدولية، ولكن ما يمكن تغييره هو قبول الرئيس بالجلوس مع أطراف المعارضة في دارفور وحل المشاكل ما بينها بالحوار السياسي السلمي، وهذا ما يراه المصريون والليبيون في لقاء قمة الدوحة. فهل تنجح الدوحة في تقريب مسافات الألم الطويل لإقليم دارفور وحل مشكلته ؟!. . خاصة وان مطالب المعارضة في الإقليم واضحة فيما ترى الحكومة المركزية في الخرطوم إصرارها على إمكانية حل مشاكل الإقليم من دون الحاجة لكل تلك المشاكل الدولية، محاولا البشير إرسال بعثات طبية وإنقاذية كتعويض عن 13 بعثة إنسانية من الأمم المتحدة تم طردها بحجج أنها بعثات تجسسية.
بل وخرج الصوت الرسمي مؤخرا ليؤكد على ضعف تلك البعثات في أداء وظائفها في خدمة السكان. هذا الصوت الذي ينبعث إعلاميا بشكل متأخر دائما. فلماذا لم تكن الحكومة المركزية معنية به، فالأقاليم البعيدة عن المركز هي دائما من أكثر مشاكل الدول النامية، بل ويبدو ان كل خطط التنمية ناقصة عن معالجة الأزمات.
وكلما قدمت سنويا منظمات الأمم المتحدة تقاريرها التنموية عن تلك الدول، وكلها بالأرقام والوقائع، فلا نسمع من المسؤولين القابعين في مقاعدهم إلا صوتا واحدا علت نبرته مؤخرا بشكل مبتذل، هو ان تلك التقارير معادية لنهضة هذه الدول وتحاول التشكيك في التنمية. وبدلا من تنحية ومحاسبة المسؤولين عن كل ذلك تتم عملية طمس الحقائق وتصبح تلك الأطراف البعيدة ضحية للتطوير وتحسين الخدمات بشكل سنوي، خاصة وان هناك قدرات فنية ومالية ودولية لذلك التطوير وتلك التنمية.
ما يهمنا الالتفات إليه في صراعنا مع المجتمع الدولي سياسيا وإعلاميا خاصة ونحن جزء من المجتمع الدولي وأعضاء في منظماته حتى وان كنا نتحاشى التوقيع على الجديد من هذه المنظمات كمحكمة روما، غير اننا مجبرون آجلا أم عاجلا على الانخراط فيها، خاصة وان الانكفاء والرفض عن التوقيع يقدم دلائل وبراهين عن ذلك التملص لمجتمع دولي يحمل على عاتقه حماية الشعوب والحكومات معا في ألفية جديدة تختلف عن القرن المنصرم.
إن نموذج الصراع بيننا وبين المجتمع الدولي في قضية الرئيس البشير ستكون قضية مستمرة حتى وان حضر البشير مؤتمر الدوحة، وتم لأيام تسليط الضوء على حوار الطرفين السوداني الرسمي والمعارض فإن الذهنية الرسمية المتشبثة بالسلطة والخطاب الجماهيري لا يلقى مراقبة المجتمع الدولي لحقيقة أوضاعنا في تراجع هوامش التعبير واتساع رقعة الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية. قد ننجح في المراوغة السياسية داخليا بخطب مستمرة.
ولكن منظمات المجتمع الدولي لها مقاييسها ومؤسساتها ورصدها المختلف، والذي اعتدنا بكل سهولة وصفه بالاستعماري، وفي ذات الوقت نحن جزء من ذلك النقيض الاستعماري في أروقة الأمم المتحدة. ما قاله اوكامبو إزاء رحلات البشير القصيرة في نطاق دول الجوار ليست إلا تعبيرا عن اليأس، مؤكدا على ان المحكمة الجنائية الدولية لن تلغي تلك الملاحقات. فهل قادرون نحن شعوبا وحكومات على استبدال قرار المحكمة؟