عبدالمجيد السامعي
من حالة الاستقرار التي مرت بها الأمة في عهد عبدالناصر وتعاظم النفوذ السياسي والدور القيادي والشعبي لعبدالناصر، وتوسع البطش النسبي بمعارضيه، وتمادى في التنكيل بهم، وبالغ من قمعه وعدائه لصفوة المجتمع من المفكرين والسياسيين حتى الأدباء والمبدعين الذين وجد في أفكارهم خروجاً عن المنظومة التي اختارها ليسير عليها الجميع والنهج الذي رسمه لنفسه، فلم يكن يؤمن بالتعددية أو الرأي الآخر، ولم يكن ليسمح أن يرتفع صوت آخر سواه من منظور البعض فإنه اختزل كل الرموز والمسميات في ذاته وشخصه، وطغت كارزميته على الجميع، فأصبحت مصر هي عبدالناصر، كما صار عبدالناصر هو الثورة وهو رمز الحرية والنضال.
فقد توسع دوره بقدر ما تقلصت مساحة الحرية المتاحة، ولم تعد الثورة وليدة تحتاج الحماية والرعاية حتى لا ينقض عليها المتآمرون المتربصون، ولم يعد كبت الحريات من أجل المحافظة على الثورة ومكاسبها، وإنما صار ذلك سمت العصر وسمة الحكم.
بالرغم من اتساع قاعدة الانتخاب والتشدق بمقولات الاشتراكية وحكم الشعب والممارسات السياسية، فإن المجالس النيابية شهدت تدهوراً شديداً وواضحاً في أدائها، فقد سيطر الحزب السياسي الحاكم على مقاليد الأمور، وأصبح الانتماء هو المعبر الوحيد لدخول البرلمان، كما فقد القضاء استقلاله في تلك الفترة بعد تشكيل عدد من المحاكم الخاصة للنظر في قضايا معينة، فتم تشكيل محكمة الثورة ومحكمة الغدر، ومحكمة الشعب وغيرها، وقد خضعت السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية تماماً.
حاول عبدالناصر إدخال القضاء في التنظيم السياسي وإعادة صياغة الهيكلة القضائية من خلال إدخال عناصر من غير أعضائه وعندما تصدى له رجال القضاء رافضين ذلك الاتجاه، قام بحل رجالها، وفي الوقت نفسه أنشأ المحكمة الدستورية العليا لمراقبة دستورية القوانين وإلغاء ما يصدر غير متفق مع مبادئ الدستور.
كان بشهادة معارضيه متصفاً بالنزاهة وعلو الهمة والبعد عن المحاباة أو استغلال النفوذ، وكان حريصاً على ألا يميز أحداً من أفراد أسرته عن بقية أبناء الشعب.
دائماً كان متمسكاً بالقيم والمبادئ محافظاً على التقاليد فحينما زار اليونان سنة "1960م" رفض أن يضع يده في يد ملكة اليونان حتى لا تضطر زوجته إلى أن تلتزم هي الأخرى بالبروتوكول وتفعل مثل ذلك مع ملك اليونان.
لم تظهر زوجته في الحياة العامة إلا في وقت متأخر، فحتى عام 1959م لم تظهر إلا في حفلين رسميين، وقد كان عبدالناصر في حياته يفزع من حياة القصور، ويبرر ذلك دائماً بقوله: في القصر سوف يعيش كل منا في جناحه الخاص، وبالتالي سوف نصبح أسرة مفككة، أما هنا في منزلنا فإننا جميعاً نعيش معاً ونأكل معاً ويطمئن كل منا على الآخر.
ويظل يعمل في مكتبه حتى الساعات الأولى من الفجر، بينما تجلس السيدة قرينته في ركن حجرة مكتبه تشغل نفسها بالتطريز أو شغل الإبرة حتى لا تفارقه وهي معه في البيت نفسه.
أما عن الهزيمة فقد كانت هزيمة "1967م" بمثابة الزلزال الذي هز الأمة كلها، فقد كانت تلك الهزيمة أكبر هزيمة عسكرية تلحق بمصر في تاريخها الحديث.
ولم تكن تلك الحرب هي أولى حلقات الصراع المصري الإسرائيلي، فقد سبقتها عدة جولات، كانت أولها حرب فلسطين التي حسمت بالغدر والعمالة والخيانة نتائجها لصالح العدو الصهيوني الطامع في أرض فلسطين العربية المسلمة، ثم كان حادث غزة في "5 رجب 1374ه الموافق 28 فبراير 1955م" حينما قتلت إسرائيل "42" جندياً مصرياً، ثم أسفرت إسرائيل عن وجهها القبيح وعداوتها السافرة في العدوان الثلاثي على مصر سنة "1956م".
وفي حرب 1967م فقدت مصر "10" آلاف مقاتل و"1500" ضابط، ونحو "70%" من قواتها العسكرية، وتم تدمير سلاح الطيران المصري واحتلال سيناء.
ودفعت تلك الهزيمة القاسي عبدالناصر إلى إعلان تنحيه عن الحكم واستعداده لتحمل التبعات؛ لأنه يعتبر نفسه المسؤول الأول عما حل بالبلاد، فخرجت الجماهير تطالبه بالبقاء وتدعوه إلى التراجع عن قراره بالتنحي، فهل سيتعلم حكام اليوم؟!