في حزيران/ يونيو عام 1975م ، وكان رئيساً لوفد رسمي ، ومعه الأخ الدكتور حسين العمري وكيل وزارة الخارجية، وكان يحمل رسالة للرئيس أنور السادات من الرئيس إبراهيم الحمدي. وفي اليوم الثاني للزيارة طلب مني الذهاب للبيت للراحة مستغلاً فرصة غيابي لكي يقابل الرئيس السادات وحده، وفي صباح اليوم الثاني قال: لقد بحثت عنك لكي نذهب معاَ. كان الغشمي في وضع مرتبك من تصرفه، أجبته: لقد مكثت في البيت بحسب الاتفاق، وكنت راغباً في حضور المقابلة، كانت دعوتي ضرورية لأني سفير اليمن أمثل رئيس الدولة. فأجاب بخجل: فوجئت بالموعد، وذهبت إلى أنور السادات وقابلته . أجبته: المهم المقابلة وتسليم الرسالة وعاتبته على هذا التصرف فخجل، وقال: هذا بناء على توجيه الرئيس إبراهيم!
لقد علمت بوفاة الرئيس إبراهيم الحمدي وأخيه وآخرين من إذاعة صنعاء الساعة الحادية عشرة مساءً، كان حادثاً مؤلماً ومحزناً، وفي فترة صعبة كانت تعيشها اليمن بسبب الاختلاف والانشقاق بين الزملاء والأصدقاء، وبلغني بالخبر بعض الإخوة السفراء من خارج مصر، وصدمت لوفاته، وكنت أتابع الأخبار عن أسبابها والطريقة التي تم بها الاغتيال، وتأثرت جداً لمقتله مع أخيه وزملائه، رغم معارضتي لسياسته ونهجه السياسي والإداري في قيادته البلاد التي أوصلته إلى هذه النهاية المحزنة والمؤسفة.
اغتيال الحمدي
إن حادثة اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي كانت متوقعة عند كثير من السياسيين، لأن التصرفات الغوغائية والجاهلة بعقلية الشعب اليمني وبمراجعة للأحداث التاريخية تؤكد حتمية حدوث تلك النهاية المؤسفة. وفي صباح ذلك اليوم زرت الفريق حسن العمري فشاهدني أحد الإخوان الشباب الذين يدرسون في مصر "السفير فيما بعد الصديق عبدالعزيز الكميم" متأثراً وهو يعرف موقف إبراهيم مني وقسوته، ,رآني متأثراً ومنفعلاً جداً فقال: مالك يا عم حسين منفعلاً ومتأثراً؟!. قلت: أنا حزين جداً على الاغتيال والطريقة البشعة، ونقبل المعارضة والتغيير الحضاري كما خرج الرئيس السلال والرئيس الإرياني بكل إجلال، الرئيس الإرياني كان يقول: أنا لا أسمح أن تسال قطرة دم في عهدي، وحينما خرج المشير السلال -رحمه الله- كان متأكداً بأن لن يعود رئيساً، وقال للشيخ عبدالله الأحمر وللقاضي عبدالرحمن الإرياني "حافظوا على الثورة والجمهورية"، أوصاهم بهذا الكلام وهو يودعهم، وأصبحت الصورة واضحة عند الجميع أن المشير لن يعود رئيساً ، وكان هذا المشهد السياسي المؤثر في حضور القيادات السياسية والعسكرية والمشائخ، وهم يودعون المشير عبدالله السلال في مطار الحديدة. وموقف الرئيس القاضي عبدالرحمن رئيس المجلس الجمهوري -رحمه الله- كذلك وهو يؤكد لمعارضيه وزملائه لا يمكن أن تسال قطرة دم وأنا رئيس، وعرض استقالته من منصب الرئاسة عدة مرات لقد كانت تلك المواقف الوطنية من أجل مصلحة اليمن، وحرصاً على مكانتها بين الأمم، وكنت أتمنى أن يتم التغيير كما حدث للرؤساء السابقين حفاظاً على سلامة اليمن وأمنه، لأن وفاة الرئيس إبراهيم بتلك الطريقة المؤسفة تركت أثرها السيئ في قلوبنا حزناً شديداً عليه وعلى أخيه ومن معه.
الغشمي يطلب عودتي
بعد أن أصبح الرئيس المقدم أحمد الغشمي رئيساً لمجلس القيادة أرسلت له برقية عزاء في وفاة المرحوم إبراهيم الحمدي وأخيه، وتهنئته بمناسبة تولية رئاسة مجلس القيادة فرد علي بالشكر والمواساة..
وبعد خمسة أيام من توليه رئاسة مجلس القيادة وصلتني رسالة شفهية يطلب فيها مني العودة والتعاون معه في المرحلة الجديدة، واعتذرت عن العودة قبل أن تتضح صورة المستجدات، رغم حرصي على العودة للعيش في وطني. وهذا الرد سبب لي عقاباً فيما بعد وأجل عودتي ستة أشهر.
طلب مني أن أكون في مجلس القيادة واعتذرت لأن الحدث كبير والجريمة منكرة.. وهذا ما لا أقبله، أن تكون نهاية المواقف بين الزملاء والشركاء في العمل السياسي بهذه الطريقة المأساوية، لأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ولا يجوز أن نقبل بالتصفيات الجسدية بين الزملاء والأصدقاء وتنتهي العلاقة فيما بينهم بالدم، يجب على من يحترم ذاته ووطنه ألا يتحول طموحه للمناصب إلى عنف وتشويه لسمعة قادته الذين يحكمونه.
كانت هذه هي رؤيتي منذ وقت مبكر حول أي تغيير أو تعديل سياسي.. يجب أن يتم من خلال المؤسسة الدستورية، كما حدث حينما تعرض الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني لضغوط سياسية وقبلية اضطر على أثرها لتقديم استقالته إلى " مجلس الشورى" المؤسسة الدستورية، ولو صبر الذين قاموا بانقلاب 13 حزيران/ يونيو إلى نهاية عام 1974م لكانت فترة الرئيس الإرياني انتهت بسلام، وتشكلت الجمهورية الثالثة دستورياً وتشكل مجلس جمهوري أو رئاسة جمهورية بعد تعديل الدستور ، كذلك كنت أتمنى أن تحصل ضغوط على إبراهيم الحمدي من المعارضين لكي يترك الحكم ويستقيل ويعود الحكم الديمقراطي، هذا هو المخرج الصحيح في حل الأزمات السياسية.
إن ما حدث اليوم في بلادنا هو التوجيه الديمقراطي وهو الضمان الوحيد لتطوير الشعوب وسلامتها وتجنب البلاد الانقلابات والمذابح، لأن البديل للديمقراطية هو المذابح كما قالها حكيم اليمن القاضي عبدالرحمن الإرياني.
تأخير العودة
إن اعتذاري عن العودة إلى صنعاء بطلب من الرئيس أحمد الغشمي فرض علي عقوبة تأخير لمدة ستة أشهر، تمثلت في عدم السماح لي بالعودة إلى اليمن، ومنعت أيضاً من العودة لتشييع جنازة والدي-رحمه الله- وأحسست بلحظة تشاؤم من المستقبل !! هذا ضاعف من حزني ومن ألمي وزاد اليأس في قلبي، لأني لا أحب الغربة أو العيش في الخارج إلا إذا اضطررت لها، وكان أملي كبيراً بعودتي إلى وطني ، وأذكر كلمة للرئيس علي عبدالله صالح حينما زارني في القاهرة في فترة رئاسة إبراهيم الحمدي "أتمنى من الله أن أراك في صنعاء"، هذه الجملة تركت أثرها في نفسي،لأنه يعرف مشاعري ورغبتي في العودة إلى وطني، ويعرف بأنني لم أقترف ذنباً ، ولم أرتكب جرماً سياسياً أو أخلاقياً ولا قضية أستحق عليها العقاب أو الإبعاد أو النفي. وكان المرحوم الرئيس أحمد الغشمي أيضاً يعر ف رغبتي بالعودة فعاقبني بمنعها، وبعد أسبوع من وفاة والدي بلغني بالعودة إلى صنعاء وزرته في مكتبه وعاتبته بسؤالي : لماذا لم تسمح بعودتي لزيارة والدي في أيامه الأخيرة ودفنه؟ أجاب : هذه عقوبة لك لأنك رفضت الخروج مبكراً حينما طلبتك بعد وفارة إبراهيم الحمدي ، أجبته : إن ما حدث في اليمن كان أمراً يحتاج إلى مراجعة والحدث كبير ولم تكن الصورة واضحة عندي ، كلمته بكل صراحة لأني لا أعلم ما حدث ؟ ولا كيف تم؟ وكان مجاملاً وودوداً معي ، وقلقت أن تؤدي تلك الصراحة إلى أن أعاقب مرة ثانية على صراحتي. وخلال تلك الفترة دعاني إلى بيته في صنعاء وكذلك إلى بيته في ضلاع، وجلست معه ساعات طويلة، وتحدثنا في كل شيء وحدثني عما حدث في الماضي وبكل الأحداث التي مرت في تلك الفترة.
حدثني عن الصورة المؤسفة لأحداث ما بعد 13 حزيران / يونيو بحذر واستمعت إليه بحذر أيضاً، وكنت غير مطمئن للبقاء وغير راغب في العمل ، ولا سيما بعدما عرفت منه ما حصل من المآسي والحوادث كما رواها لي بتفاصيلها، وتكلم على مواقف سيئة لإبراهيم الحمدي نحو زملائه ونحو قبائل اليمن. وفي المقدمة حاشد رغم أنه لا يطمئن إلى الشيخ عبدالله ومجاهد فيما يتعلق بالحكم، ولا يريد أن يكون عبدالله بن حسين الأحمر ومجاهد أبو شوارب شركاء في السلطة.
ولهذا كلف الأخ مجاهد بالعمل في التعاونيات في منطقة حاشد، وقال لمجاهد: عليك أن تنشط في المشاريع في حاشد، ولا يمكن أن يكون هناك سيفان في غمد.
وأعطاه كل الإمكانيات للتعاونيات، وكان حذراً من الشيخ عبدالله ولا يريد أن يقترب منه، لكي لا يكون شريكاً له في السلطة، لقد صارحته بأن بقاء الشيخ عبدالله بعيداً عن السلطة ومشاركته له في الحكم غير منطقي ولا يجوز، وليس في مصلحته.ولكنه أخبرني أنه سيرتب أوضاعه فيما بعد فقلت له: إن الآلية التي معك في الحكومة آلية إبراهيم الحمدي وحكومته. قال: هذا صحيح ..وأنا أحتاج أن أستخدم هذه الآلية. قلت له : لن تكون مخلصة لك، لأنهم يتهمونك بأنك وراء مقتله، فيكف سيكونون مخلصين لك؟ ! قال: سوف أعمل التغيير الكبير بعد رمضان وسوف تتغير كل هذه الوجوه، وستكون أنت أحد المشاركين.