بقلو/ ناصيف حتي
فيما نستذكر تاريخ القمم العربية، غداة قمة الدوحة، تبرز سمة أساسية في الثقافة السياسية العربية وهي أن القمة بشكل عام تخلق حالة استنفار سياسي عشية انعقادها يعبر عنها عادة بمفردات مثل دقة المرحلة وطبيعة التحديات واللحظة التاريخية. فهذه كلها تعبر عن الثقافة السياسية السائدة. فالقمة موعد مفصلي دائما يسبقه منسوب مرتفع من التطلعات والتمنيات الشعبية وتلحقه الوعود الرسمية بأن ما يصدر يشكل دائما نقلة نوعية وقطيعة مع ما سبق من سلبيات.
ورغم أن الأدبيات الدبلوماسية للقمة وللمؤتمرات العربية تتسم دائما بالمواقف والإعلانات المبدئية والصياغات العامة والكبيرة في مفاهيمها كما تتسم بالمناشدات والتحذيرات والمطالبات ولكنها تفتقر دائما، وهنا تكمن المشكلة، إلى بلورة سياسات وآليات عملية وصيغ تنفيذية وتطبيقية للفعل الدبلوماسي.
أمنيات غالبا ما تنتهي بإحباطات في ظل أوضاع عربية تزداد الفجوة فيها اتساعا وعمقا بين النظام المجتمعي العربي من جهة والنظام الرسمي العربي من جهة أخرى في ظل حالة التضعضع والتبعثر وفقدان البوصلة والانكشاف الحاد وهي السمات التي تطبع الوضع العربي. دون شك تبقى هنالك بعض الانجازات والايجابيات في القمة لكن لا ترتقي هذه إلى مستوى إحداث قطيعة في مقاربة العمل العربي المشترك وبالتالي فرض تحول يوقف مسار الانهيار العربي الحاصل طالما لا توفر القمة الحد الأدنى المعقول من تضامن عربي عملي وفاعل وبالتالي فعال ومؤثر.
فالقمة توفر دائما لحظة وإطار للتشاور والتنسيق ذات هندسة متعددة من حيث عدد المشاركين فيه وتسمح بكسر الجليد وإزالة سوء فهم وإنهاء قطيعة وتوفير تفاهم وكلها من سمات ووظائف دبلوماسية الكواليس التي تتسم بها القمم وكافة المؤتمرات عربية كانت أم دولية. قطار المصالحة انطلق في قمة الكويت رسميا ولو بشكل محدود وبطيء واحدث دون شك تقدما في قمة الدوحة.
لكن المصالحة ليست مصافحة قد تطلقها قمة أو قد تعززها رغم الوزن الكبير الذي يحتله عنصر الشخصنة في العلاقات العربية العربية، فالمصالحة ابعد من ذلك، فهي تتطلب مكاشفة ومصارحة وواقعية في النظرة وفي التوقعات في الأهداف التي يمكن تحقيقها وموضوعية في تحديد الممكن في شبكة معقدة من العلاقات التعاونية والخلافية تعكس تعقيد المشهد العربي الإقليمي الحامل لمسائل متداخلة ومتشابكة ومتضاربة.
عناصر خمسة يفترض أن تدفع بالمصالحة العربية - العربية وتسهل حصولها في عملية سياسية تتخطى عقد قمة أو مؤتمر: أولا أن منطق المواجهة الذي طبع السياسات العربية في السنوات الأخيرة لن يؤدي إلى حسم لمصلحة أي من أطراف هذه المواجهة لا بل يؤدي إلى إنهاك متبادل وبالتالي فالطريق أمام التغلب على الآخر مغلق كليا، الأمر الذي يفترض أن يدفع لمراجعة الموقف عند الجميع في هذا الخصوص، فإذا غرق المركب فسيغرق كل ركابه.
ثانيا، لا توجد صراعات حول شرعية عقائدية تقوم على رفض الآخر كما كانت الحال في لعبة الاستقطاب الحاد التي طبعت الحرب العربية الباردة في الستينات فلا يوجد من هو ثوري ومن هو محافظ، من هو ملتزم أو مقيد في إطار معسكر هذا القطب الدولي أو ذاك، مما يلغي أيضاً عائقا أساسيا أمام المصالحة.
ثالثا، أن الصراع فيما لو استمر سيؤدي إلى مزيد من الإضعاف للنظام الرسمي العربي وكل وحدات النظام خاسرة في هذا المجال كما سيؤدي في زيادة منسوب الراديكالية في النظام المجتمعي العربي وهو الأمر الذي يساهم في إضعاف شرعية هذا النظام الرسمي ويزيد بالتالي من الضغوطات الخارجية والداخلية على كل من دوله.
رابعا، سقط الخط الأحمر الأميركي أمام المصالحات دون أن يعني ذلك أن هنالك شيكا على بياض أميركي تجاه المنحى الذي قد تتخذه هذه المصالحات في قضايا معينة مرد ذلك بالطبع سياسة الانخراط المزدوج ولو بسرعتين مختلفتين التي تنتهجها واشنطن مع دمشق وطهران.
خامسا، الملفات الأساسية في المنطقة مثل فلسطين والعراق وامن الخليج والإرهاب والتعاون الاقتصادي الذي نرجو أن لا يبقى موسميا بعد أن كان منسيا حتى قمة الكويت، وأن لا يعود منسيا بعد ذلك في خضم أزمة اقتصادية عالمية لها تداعيات مختلفة على العرب، وهو يبقى ملفا أساسيا في بناء الأمن الإقليمي والمجتمعي العربي، الشرط الضروري لتعزيز العمل السياسي على الصعيدين الوطني والعربي من خلال إرسائه على قدرات أساسية، هذه كلها ملفات بحاجة لمقاربات شاملة ليس فقط من حيث مضمونها بل بشكل خاص من حيث أطرافها.
هذه هي العناصر التي يفترض كما أشرت أن تسهل المصالحة لكن توخيا للدقة لا تعني المصالحة بالضرورة حصول تطابق كلي في الأولويات والسياسات والمواقف أو توحيد هذه السياسات والمواقف فنحن نتحدث عن دول ومساحة الاختلاف قائمة دائما بينها لجملة من الأسباب أهمها الموقع الجغرافي السياسي لكل دولة الأمر الذي يؤثر في مواقفها وكذلك الأولويات الوطنية التي تعكس خصوصيات كل منها، لكن السؤال التحدي هو كيفية تصغير أو احتواء تداعيات الاختلاف.
فالمطلوب بعدما انطلق القطار في الكويت وأخذ قوة دفع ولو محدودة في الدوحة، المكاشفة حول رؤية كل طرف للأولويات وللسياسات والمواقف التي تخدم هذه الأولويات بغية بلورة تفاهمات حول أمرين أساسيين في المرحلة الأولى: أولهما كيف ننظم وندير خلافاتنا من خلال منع حصول تداعيات لهذه الخلافات على مختلف العلاقات العربية - العربية وثانيا، كيف ندير أو نتعامل بشكل ناجح وفعال، والمعيار هنا هو بالطبع التأثير الايجابي التغييري، في الملفات المشتعلة وتلك القابلة للاشتعال في المنطقة.
هنالك ثلاث نقاط ايجابية تسمح بالتفاؤل أولها بداية الاعتراف الرسمي العلني بأن الاختلاف طبيعي كما هو التفاهم وبالتالي بضرورة إدارة الاختلاف كمرحلة أولى للولوج إلى تسويته، وثانيا الاعتراف الرسمي العلني بأن تطابق السياسات ليس البديل الوحيد عن الصراع فهذه ثنائية مغلوطة ومثالية وإيديولوجية فهنالك نماذج عديدة لتطوير العلاقات بين حدي الصراع والتطابق وثالثا هنالك اعتراف رسمي أيضاً بضرورة مأسسة التعاون والتضامن بغية تحريره قدر الإمكان من الشخصنة التي تجعله دائما عرضة للأهواء وذات نفس قصير.
هذا التغيير في الخطاب الرسمي الذي نرجو أيضاً أن يطال الخطاب شبه الرسمي يشكل بداية طيبة وشرطا ضروريا ولو غير كاف لإحداث نقلة نوعية في العلاقات العربية - العربية. ولنتذكر أن إطفاء الحريق يبدأ بمحاصرة النار. <
كاتب لبناني