حصار صنعاء
1967 1968
والخلاصة أن الإمام يحيى قام برسم سياسته المنحرفة عن جادة الصواب بالنسبة لماضي اليمن وحاضرها ومستقبلها وخلاصة تلك السياسة أنه لا يمكن بل يستحيل حكم الشعب اليمني وهو قوي بل يتوجب إضعافه في جميع جوانب الحياة ليسهل حكمه وتسلس قيادته والتحكم به، وعليه فقد عزل اليمن من حضارة الأمس وحضارة اليوم وفي الوقت نفسه حاصره وأضعفه وما أثبت ذلك عدد من المقولات والتي كانت تطبق بالفعل نورد منها بعض أمثله: ( اجوع كلبك يتبعك ) وعليه يأخذ الإمام الواجبات من جميع أنواع المحاصيل ويخزنها في ما كان يسمى بمدافن تحت الأرض تغلب عليها الرطوبة، ويأخذ تلك الواجبات من مزارعين يستحقون توزيعها عليهم لا أخذها منهم لا سيما عندما لا تجود الأرض أو تصاب بكوارث طبيعية. . . الخ وكانت تمضي سنوات الجوع وحاجات الناس للمخزون في تلك المدافن هامة جدا قد تنقذهم من الموت ومع ذلك تبقى في المدافن لتفسد وتحصل الوفاة وهنا تظهر مقولة أخرى ( من رحمه الله قربه إليه ) وعلى هذا فقس.
ومن الأمثلة الهامة على امتلاك الإمام لليمن إنتاجاً وإنساناً ما مفهومه رعوي ورعية الإمام، ومن يخرج عن هذه المفاهيم يتخلص الإمام منه سواء أكان منافساً له أو متمرداً عليه، وقد تمكن من امتلاك بيت المال بقسميه المالية للنقود والأنبار لأنواع الحبوب، وكانت أطماع التملك قد بدأت منذ حرر أبناء اليمن " المتطوعين " اليمن من الغزو التركي، وبدلا من توزيع ما خلفه الأتراك من غنائم على المتطوعين اعتبرها الإمام يحيى أملاكاً خاصة به وتخلص من اغلبهم ولم يبق منهم إلا من تخلى عن هويته ( قلبا وقالبا ) وأصبح رعوي الإمام أو عسكري الإمام أو مستخدمه.
تلك الأمثلة قطرة من مطره والخلاصة أن الإمام يحيى قد عزل اليمن وحاصرها حصاراً شديداً من الداخل والخارج قد يطول الحديث حوله وكذلك حوصرت العاصمة صنعاء بعد مقتل الإمام يحيى مباشرة من قبل ولي عهده ووريثة الإمام أحمد الذي أباحها وأهدرها للقبائل الفقيرة في العام 1948م. ولا تزال ذكرى تلك الأحداث في ذاكرة العديد من أبناء اليمن وقد استفاد الملكيون من الخلفية الحصارية للعاصمة صنعاء التي اختتمها الإمام أحمد الذي أخذ على نفسه عهدا بملاحقة الأحرار وكان الأستاد محمد محمود الزبيري الذي ألف رواية بلاد واق الواق يردد دائماً عدداً من المقولات للإمام أحمد منها انه الله بتوقيعه " أحمد الله " على كل ورقة شكوى تقدم إليه ومقوله أخرى انه يود ملاقاة ربه وسيفه يقطر من دماء الأحرار. . . الخ، وقد نجح في ملاحقة الأحرار حتى أثر على نشاطهم فعلاً.
وجاء بعد وفاة الأمام أحمد الإمام محمد البدر الذي أعلن في خطاب العرش أنه سينهج سياسة الآباء والأجداد وأنه إذا كانت سياستهم قطع الرأس من الرقبة فإنه سيشدخ الرأس من النصف، وكانت أخبار قد تسربت من القصر بأنه سيقوم بإعدام عدد من الضباط الأحرار كوجبة أولى ( ما بين خمسه عشر إلى خمسة وعشرين ضابطاً ) وعليه فقد كان التنظيم السري للضباط الأحرار قد اعد قصره ( مقر إقامته ) بالأسلحة المتنوعة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة وإنشاء قاعدة عسكريه في منطقة عمران استعداداً لتطبيق سياسة الآباء والأجداد بالإضافة إلى قلعه حجة ومع ذلك فقد تمخض الحدث العظيم ثورة سبتمبر الخالدة، وفر البدر وتمت ملاحقته وأنصاره من قبل الجيش والشعب حتى ظهروا على أراضي السعودية وهناك تتابعت لقاءات البدر بالحسن " عم البدر " وبقية الأمراء الصغار وتم التحالف مع الاستعمار القديم والجديد والتخلف المروع في اليمن بصورة خاصة والعالم العربي والإسلامي بصورة عامة وفرضت الحرب على الجمهورية العربية اليمنية، ولم يستفد تجمع الأسرة الحميدية من تجارب الماضي خصوصاً فشل الإمام يحيى جراء تجربة حربه مع الملك سعود في شمال وغرب الوطن وفشله أيضاً في الجنوب مع الاستعمار الإنجليزي، حين لم يتمكن من عمل أي تغيير لتلك الحدود التي وضعها الغزو التركي مع الاستعمار الإنجليزي وأعقبه ولده الإمام أحمد رغم فرض شخصيته والمحاولات التي قام بها فيما يتعلق بتحرير الجنوب ولم يحدث أي تغيير مما وضعه ورسمه الغزو التركي والاستعمار الإنجليزي من حدود وبالرغم من عقد صفقة الأسلحة بحجة تحرير الجنوب والحقيقة المرة أن تلك الصفقة هي لمواصلة إضعاف اليمن واستمرار خضوع اليمنيين لسياسة الآباء والأجداد في حكم الأبناء والأحفاد، وما سبق ذكره يمثل الخلفية التاريخية للحصار ويمكن اعتباره الدافع الأول للحصار.
الدافع الثاني: يتمثل في الحرب الشرسة والطويلة التي فرضت بعد قيام الثورة حتى الحصار الغاشم وتفرعت إلى عدد من المعارك بلغت في إحدى الفترات خمساً وأربعين معركة كان للجمهورية العربية المتحدة دور في التصدي لها إلى جانب اليمنيين طبقاً لاتفاقين الأول سري لعهد ما قبل الثورة والثاني علني بعد قيام الثورة مباشرة.
الدافع الثالث: للحصار تمثل في مواصلة التأثير المصحوب بالإغراءات المادية والمالية بسخاء مكنت تلك المؤامرات من استقطاب التخلف المروع والمكون من الجهل والفقر والمرض والخوف والعزلة الرهيبة. . . الخ.
الدافع الرابع: تمثل في استغلال الحصار للأخطاء التي لم تصحح في حينها وفور حدوثها وتركت لتخدم العدوان ومواصلة التآمر على الوحدة الوطنية وتمزيق صفوف الاصطفاف الوطني.
الدافع الخامس: تمثل بالتصريح علناً من قبل وزير داخليتهم القاضي أحمد السياغي وفي عدن في الأشهر الأولى لقيام الثورة ما نصه ( إن صنعاء رأس الأفعى ولا بد من بتره ).
الدافع السادس: تمثل في التآمر على عدم وصول الجيش الوطني إلى المستوى المطلوب منه لحراسة مكاسب الثورة والجمهورية والدفاع عن الوطن وسيادته.
الدافع السابع: تمثل في زرع الاختلافات والخلافات في إطار الصف الجمهوري لإيجاد شروخ وشقوق موصلة إلى الضعف العام والسقوط نحو الهاوية.
الدافع الثامن: تمثل في إيجاد خلافات واختلافات بين فريق كبير من الجمهوريين وآخر من الأخوة المصريين لمواصلة سياسة الإضعاف حتى وصلت إلى أقصى حد في عام 1967م.
الدافع التاسع: تمثل في تعرض العاصمة صنعاء لنكبات الدهر لمرات عديدة كان آخرها في العام 1984م ما ظل تأثيره في الأذهان واضحا على سير الأحداث.
الدافع العاشر: تمثل في الاعتداء على ثورة مصر الذي حد واضعف من نفوذها بصوره عامة واضر بالثورة اليمنية بصورة خاصة، خصوصا بعد سحب جيشها من اليمن في أحوال وظروف غاية في الحرج.
الدافع الحادي عشر: تمثل في خروج الجيش المصري وقد تغير المفهوم الأساسي لوجوده فبدلا من مساندة الثورة والجمهورية من أي اعتداء خارجي أصبح مسلما بسقوط الثورة والجمهورية وعودة الملكيين، ومن خلال عدد من المواقف منها على سبيل المثال سحب بعض قطع من الأسلحة الثقيلة أثناء انسحابهم بحجة أنها قد تقع في يد الملكيين علما بأن الرأي العام الداخلي والخارجي وفي مساحات واسعة من العالم يجزم بسقوط العاصمة صنعاء وبالتالي الثورة والجمهورية بانسحاب الجيش المصري.
الدافع الثاني عشر: تمثل في ما حدث في الجنوب اليمني المحتل من إختلالات كانت المبررات لتقديم الاستقلال وإعلان دولة الجنوب على الإتحاد والوحدة الفورية مع الشمال بعد نجاح ثورة الشمال وما حدث من إشغال الأخوة في الجنوب حتى لا يتمكنوا من دعم وإسناد أشقائهم في شمال الوطن والذي كان يخطط له الاستعمار لاستهداف إسقاط الثورة في الشامل وليتمكن العدو من العودة من النافذة بعد أن طرد من الباب.
الدافع الثالث عشر: تمثل في عدم التزام المملكة العربية السعودية بوقف الدعم عن الجانب الملكي حسب ما تم الاتفاق عليه بين جمال عبد الناصر والملك فيصل بل إن الدعم من قبلهم قد تضاعف بشكل غير محدود، كما أصبح صوتهم مسموعا وواضحا وهذا ما عبر عنه سفيرهم في بيروت عندما رفض وزير الخارجية اليمني الدكتور حسن مكي الجلوس مع وفد الملكيين في العام 1968م معلنا أن اليمن دولة ذات سيادة ومعترف بها كل دول العالم وعضو في الأمم المتحدة والجامعة العربية وهؤلاء ليس لهم أي صفة حتى يمكن الحوار معهم ويقصد الملكيين وغادر القاعة والسفير السعودي يصرخ " دعوه يذهب فسوف يسحل في شوارع صنعاء " في نفس الوقت كانت الحشود الملكية تتجمع في جحانة ويتم توزيعها على المحاور الأربعة المحيطة بالعاصمة صنعاء، وبسرية تامة لم يعلم بها المسئولون في صنعاء خصوصا قبل وبعد وأثناء حركة نوفمبر 1967م.