بقلم / حسين العودات
كان قرار وزراء الثقافة العرب اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009 قراراً هاماً وحكيماً من الجانبين السياسي والثقافي، لأن المدينة بحاجة جدية للاحتفاء بها طوال هذا العام، وتذكير العرب والمسلمين والرأي العام العالمي برمته أنها مدينة عربية الهوية والانتماء والتاريخ والتراث والعمران.
وإبراز مخاطر التهويد و(الأسرلة) التي تواجهها بعد أن قطعت أشواطاً طويلة نحو تحقيق هدفها وهو طمس وجه المدينة العربية وقضم أحيائها، وهدم معالمها الثقافية والحضارية العربية (الإسلامية والمسيحية)، وتهجير سكانها بمختلف الأساليب والطرق وجميعها طرق غير مشروعة تخالف اتفاقيات جنيف والقانون الدولي، وتوسيع مساحتها توسيعاً مفتعلاً حتى غدت القدس القديمة (الشرقية) جزءاً صغيراً من القدس الكبرى ونقطة في بحرها، ووصلت هذه المساحة إلى (10%) من مساحة الضفة الغربية.
والإجهاز على كل ظاهرة أو مظهر أو أثر أو مقام ثقافي أو ديني فيها، وعدم الاعتراف بأي حق للعرب إلا على أماكنهم المقدسة الإسلامية والمسيحية (المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة) وبالتالي محو هوية المدينة الثقافية العربية باستثناء بعض الحقوق الدينية، بانتظار أن يأتي الوقت المناسب للاستيلاء على بقية الأماكن وسلبها من أتباع الديانتين بالعنف أو الغصب أو الاحتيال.
الخشية قائمة في أن يتحول عام القدس (عاصمة للثقافة العربية) كما هي التقاليد العربية عادة إلى عام للاحتفالات الفنية والفلكلورية والنشاطات الطارئة المظهرية، وفعاليات (المعارض، والحفلات الموسيقية، وما يشبهها)، وعلى أهمية هذه النشاطات فإنها لا ينبغي أن تكون بديلاً من النشاطات والأعمال الجادة والفعاليات المفيدة وذات الأثر في بنى المدينة الثقافية والتاريخية والدينية، وقد شهدنا مثل هذه الطقوس في احتفالات المدن العربية التي كانت عواصم للثقافة في الأعوام السابقة.
حيث لم تترك هذه الفعاليات في الغالب الأعم بصمات ثقافية عميقة وثابتة ومستقرة على هذه المدن أو في تلك الأقطار التي هي عاصمتها،، وتحولت نشاطاتها في أحيان كثيرة وربما معظم الأحيان إلى نشاطات احتفالية مسطحة مرت مرور الكرام، أو شكلت جزءاً من الدعاية للأنظمة السياسية القائمة والإشارة إلى إنجازاتها.
سواء كانت النشاطات في المدن العربية التي كانت عواصم للثقافة في السنوات الماضية ذات مردود هام وشامل وعميق أم لم تكن فإن الأمر يختلف عنه في مدينة القدس، المهددة بوجودها وهويتها العربية وتاريخها الثقافي العربي والإسلامي، ولذلك ينبغي أن يكون الاحتفاء بهذه المدينة فرصة للعمل النشط والجدي لتأكيد دورها الثقافي والتاريخي وعروبتها ووجهها الإسلامي.
وهذا يجب أن لا يقتصر على الاحتفالات الفنية والفلولكلورية والمظهريات والمعارض والحفلات وغيرها، لأن الحد الأدنى المطلوب من برامج الاحتفالات بهذه المدينة يتخطى كل ذلك ليطاول الاهتمام بها هي كمدينة استثنائية وبأبنيتها التاريخية والمحافظة على تراثها الحضاري والديني والثقافي والعمراني، وترميم وتجديد مساجدها، ومدارسها التاريخية، وكنائسها، وزواياها، وتكاياها، والمقامات الدينية، والأضرحة، والمقابر، (وخاصة مقابر الأعلام الراقدين فيها)، إضافة إلى طبع الكتب والنشرات والصور وغيرها التي ترصد تاريخها وتاريخ أعلامها ومعالمها.
وعقد الندوات والمحاضرات، وغيرها من النشاطات الجدية وتنفيذ خطة إعلامية شاملة وواسعة وجماهيرية، ومن جانب آخر مساعدة الجمعيات الاجتماعية والخيرية والإنسانية القائمة في المدينة وما في حكمها لتستطيع تأدية مهماتها،، ودعم سكانها العرب مالياً ومادياً ومعنوياً ليستطيعوا الصمود بوجه التهويد (والأسرلة)، ولاشك أن هذه النشاطات تحتاج لرصد مئات الملايين من الدولارات، التي مهما بلغت كمياتها وأعدادها فإنها تبقى قليلة أمام أهمية هذه المدينة التي تشكل عنوان الوجود العربي والإسلامي المستمر منذ أربعة عشر قرناً ونيفاً في فلسطين، والتي يؤدي تهويدها إلى ضياع وجهها العربي (المسيحي والإسلامي) وطمس دورها الثقافي وحاضرها الديني ومستقبلها السياسي.
لقد احترم العرب وضع المدينة ودورها وتنوعها الديني خلال التاريخ مما لم يفعله الفرنجة ولا اليهود، فبعد فتح القدس عام (638م 15 ه) أصر الخليفة عمر بن الخطاب أن يستلمها بنفسه لأهميتها عند المسلمين، وأعطى عهدة لسكانها المسيحيين من العرب وغير العرب مسجلاً (وليكن الأمان عليهم وعلى كنائسهم ودياناتهم وكافة زياراتهم التي بيدهم داخلاً وخارجاً) وسمح لليهود بالإقامة فيها بعد أن كانت ممنوعة عليهم منذ ثلاثمائة عام قبل ذلك التاريخ.
وعندما استعادها صلاح الدين عام (1087م) أصر أن يدخل البطريرك المسيحي قبله إلى المدينة، وافتدى الأسرى الفرنجة من ماله الخاص والتزم بالعهدة العمرية، كما نفذ السلطان العثماني سليم الأول عندما استولى على المدينة عام (1516) مضمون هذه العهدة بحذافيره بعد أن قبلها ووضعها على رأسه.
بينما عندما احتلها الفرنجة (الصليبيون) عام 1099م فقد قتلوا سكانها صغاراً وكباراً، نساء وأطفالاً، حتى كانت خيولهم تسير في برك من الدماء، وقد وصف أحد مؤرخيهم حال القدس عند احتلالها فقال (كان حجاجنا يطاردون العرب ويقتلونهم، وبعد أن نجحوا في القضاء على مقاومة الكفار أسروا عدداً كبيراً من الرجال والنساء وجمعوهم في المعبد وأخذوا يقتلون من يشاءون ويتركون على قيد الحياة من يشاءون، ثم انطلقوا إلى مختلف أنحاء المدينة يسرقون الذهب والنقود والجياد وينهبون المنازل).
وبعد أن احتلتها إسرائيل عام (1967) بدأت عمليات التهويد وإزالة المعالم العربية والإسلامية وتزوير هوية المدينة والعبث بعمارتها ومنشآتها الدينية والثقافية وارتكاب كل صنوف الهمجية بالتعامل معها.
إن العرب مطالبون اليوم بالمساهمة الفعالة المادية والمعنوية (وهم قادرون) كي يجعلوا من عام القدس عاصمة للثقافة فرصة لإنقاذ المدينة والحفاظ عليها وتثبيت سكانها فيها، وأن يتذكروا دائماً أنها بحاجة لأعمال جادة لا أعمال احتفالية، وأنها جزء من تاريخهم وثقافتهم بل ووجودهم نفسه.<