بندر محمد دغيش
نهض من نومه فزعاً بعد أذان الفجر والعرق يتصبب من جبينه إنه كابوس رهيب لو لم ينهض منه لكان مقتولاً.. تحرك من فراشه وتخطى أجساد أطفاله الأربعة ... كاد أن يدوس أصغرهم الذي كان ينام بجواره تفقد ما تبقى من فتافت طعام المساء .. القى نظرة وعيناه مشبعة بالحزن وكادت دمعتان على وشك السقوط غادر وتأكد من إغلاق باب مأواه الخالي من النوافذ والمليء بالحشرات والبعوض وقال ذات يوم هامساً لنفسه إنها زنزانة ... الضوء يدخل من فتحة صغيرة فوق الباب المهترء الضوء والهواء فقط الشمس لا يسمح لها بدخول .. طوال النهار،
وكعادته توجه حاملا أدواته في سلة "محفر" إلى حراج العمال ينتظر سعيد ينتظر... وفي هذه الأحيان قد يتذكر، حيث كان "سعيد" قد غادر قريته فاراً بأطفاله تاركاً وراءه داره وأرضه التي ورثها من والده، وكان يشعر بالهزيمة عندما يسمع أحداً يناديه باسمه "سعيد" لأنه كان لا يعرف ما معنى السعادة، فلقد حرم من التعليم للقيام بمعاونة والده وما إن صار عمره "17" عاماً زوجه والده وبعد أربعة أعوام صار لسعيد أولاده الأربعة وفي آخر ولادة ماتت زوجته وأصبح عازباً لم يعرف طعم الراحة طوال حياته، فهو منذ نعومة أظفاره يرعى ويحرث ويجمع الحطب، ويسقي الزرع وكانت أم سعيد قد توفت بعد عامين من ولادته وكان وحيد والده وفي يوم من الأيام ضاق قلب سعيد حزناً على حزنه وذلك بمقتل والده من قبل ولد عمه بسبب قطعة أرض أدعاها له بعد موت والده فطالبها من عمه ولم يرضَ عمه والد سعيد وباعتراف له بها لأنها وكما هو مبين في الأوراق الرسمية ملك أبو سعيد، وبعد الحادثة المؤلمة والتي فيها جن جنون سعيد لم يكن بمقدوره إلا أن يثأر لوالده من أبن عمه، ترصد له وفي إحدى الليالي حالكة الظلام بالقرب من منزل عمه وبين الأشجار ترقب لحين وصول "حسن" ولد عمه أطلق عليه رصاصة أصابت حسن وسط رأسه وأردته قتيلاً ثم توجه سعيد إلى منزله لأخذ أبنائه وما استطاع أخذ الأثاث وغادر القرية ليلاً ليحط الرحال بإحدى المدن البعيدة من قريته، ليسكن تلك الزنزانة الاختيارية،
طوها هو ذا سعيد ما يزال في الرصيف منتظراً لطالب عمل وأطفاله اليتامى يتقاسمون فتات الخبز المتبقي من عشاءهم ينتظرون والدهم الذي ربما عاد هو الآخر لأخذ قسمة مما تركه لهم، يعيشون أسوأ مراحل حياتهم يتم وفقر وأربعة جدران مطبقة على أنفسهم يقتاتون ما يمن به عليهم بعض الجيران مما تبقى من أطعمتهم،
وسعيد ذلك تمر الأيام والشهور والسنوات وهو ما يزال يخشى تربص الموت به إثر رصاصة قد تأتيه من أي اتجاه، من يرى سعيد يظن عمره في الأربعينات بينما هو لم يتجاوز الخامسة والعشرين بعد يعيش سعيد أشد أنواع الإرهاب الجهل والجوع والخوف والمهانة والحزن، ويا له من سعيد.<