د. فايز أبو شمالة
يتذكر سكان قطاع غزة؛ أولئك الذين عبروا طريق صلاح الدين الواصل بين رفح وغزة في السنوات الأولى لوصول السلطة الفلسطينية سنة 1994وحتى قبل انتفاضة الأقصى، حين أقام الجيش الإسرائيلي نقطة تفتيش بالقرب من دير البلح، أمام مستوطنة "كفار دروم"، كان الجنود الإسرائيليون يرقبون الغادي والعائد على الطريق الوحيد الواصل بين شمال القطاع وجنوبه، ويضعون حاجزهم الواضح المعالم للجميع، والذي كان ينطق باسم اتفاقية أوسلو التي أجازت للحاجز أن يقطع الطريق فيما بعد، ويشكل مصدر عذاب للسكان.
لو رجع سكان قطاع غزة إلى الوراء قليلاً، وتذكروا لحظات مرور الرئيس "أبو عمار" من هذا الطريق، وكيف كان يُخلى تماماً من أي إشارة على وجود إسرائيليين، وتمسح عن الطريق كل معالم وجود موقع للجيش الإسرائيلي، الذي ينسحب بالكامل، ويخلي المكان، ولا يبقي له أثراً، بل كان الجيش الإسرائيلي يقطع طريق المستوطنين عن هذا الشارع حتى يتم عبور موكب الرئيس "أبو عمار"، وكان المواطنون يعبرون الطريق بمعية الرئيس بلا أي حاجز؛ ولكن بعد أن تمر آخر سيارة في الموكب، يعود الجيش الإسرائيلي إلى مكانه، وسيطرته، ومراقبته حركة المواطنين.
وكان التفسير الفلسطيني في ذلك الوقت: أن الجيش الإسرائيلي يخلي المكان احتراماً للرئيس "أبو عمار"، وخشية انفعاله من مشاهدة الجيش الإسرائيلي!. هكذا كان يقال!.
بعد خمسة عشر عاماً، وبعد انتفاضة الأقصى، وبعد خمسة أعوام على استشهاد الرئيس "أبو عمار" محاصراً، مطعوناً بالغدر، مقتولاً بالسم، يمكن الجزم بأن هنالك أطرافاً فلسطينية كانت تعلم تفاصيل اتفاقية "أوسلو" وكانت تعرف أن نصوصها تقضي ببقاء الجيش الإسرائيلي يقطع الطريق الرئيسي في قطاع غزة، ولكنها أخفت هذه الحقيقة عن الرئيس، أو أنهم موهوا الأمر على "أبو عمار"، وأمعنوا في التمويه من خلال التنسيق مع الإسرائيليين لإخلاء الجيش أثناء عبور موكب الرئيس للشارع الرئيسي، فكان لا يرى إلا القوات الفلسطينية المسيطرة على الشارع.
ولم يكن الأمر مريباً في ذلك الوقت، كان لبعض الأسماء بريق الدم النازف في بيروت، وأحراش جرش، ولكن تتالي الأحداث فيما بعد تحتم ربط الأمور ببعضها على هيئة زاوية، ضلعاها الشك والريبة، زاوية تحشر فيها جهة فلسطينية خادعت الرئيس أبو عمار، وأخفت عنه حقيقة اتفاقية أوسلو المهينة.
وهي الجهة ذاتها التي صمتت كل الفترة التي حوصر فيها، وتآمرت عليه حتى نبتت لها أجنحة، واستولت على إرثه السياسي، وهي الجهة ذاتها التي تكتمت على طريقة تصفيته غدراً، وهي الجهة التي ما زالت تتآمر على مقدرات الشعب الفلسطيني، وما زالت تصر على انقسام الصف، وتعمل بجدٍ على تواصل الخلاف.
وستكشف الأيام، والشهور، والسنوات القادمة أن الجهة التي نسقت تراجع الجيش الإسرائيلي عن شارع صلاح الدين في قطاع غزة لحظة مرور موكب الرئيس "أبو عمار"، هي الجهة ذاتها التي تنسق سراً تسهيل تسليم باقي فلسطين للمستوطنين.<