بقلم :د. سليمان الهتلان
منذ ما يقارب العشرين عاماً، شهد العالم احتفالات الألمان بسقوط جدار برلين الذي قسم وفصل بلادهم إلى شرقية وغربية. سقط جدار برلين في برلين وكان سقوطه حدثاً عالمياً شكل تاريخا فاصلا بين مرحلتين مختلفتين من عمر الشعوب وحركة التاريخ.
ولكننا في العالم العربي كما تثبت الأيام والأحداث في محيطنا لا نزال لا نعرف كيف نقرأ التجارب الإنسانية داخل وخارج حدودنا. أم أن التاريخ في منطقتنا يسير وفق منظومة فكرية خارجة عن حركة التطور العالمي ومسيرة الأمم الأخرى؟ أو أن التراجع صار مكوناً جينياً في العقل العربي؟ فبدلاً من أن تسقط جدران كثيرة كانت تفصل بين العربي والعربي، بين المصالح العربية المتجانسة، وبين البلاد العربية المتجاورة، وبين العقل العربي وحقائق التغيير على الأرض، بين الإنسان والإنسان في العالم العربي، شيدت جدران فصل وعزل جديدة متينة البناء ويكاد يصعب الخلاص منها.
جدران برلين العربية تكاد تتأسس وتنتشر في كل ركن من أجزاء الوطن العربي وربما بداخل الإنسان العربي في رؤيته وتعامله مع من حوله في محيطه العربي. ونتائج هذه الجدران العازلة تبدو واضحة في كثير من تفاصيل المشهد العربي الحالي وفي صور الهوان والضعف التي هي عنوان المرحلة العربية الراهنة على أكثر من صعيد!
في بيروت، وعلى مدى ثلاثة أيام من اللقاءات خلال هذا الأسبوع، شاهدت جدران برلين وقد انتشرت في كل زاوية من زوايا المدينة التي نظرت إليها يوما ك «عاصمة النور» العربية وهاهي اليوم أنموذج صارخ لثقافة انقسام مخيف تشيد على أساسها «جدران برلين» العربية. ما خلت جلسة واحدة من قذائف تهم مخيفة تتبادلها كل الأطراف اللبنانية إزاء أزمات لبنان المتلاحقة ولعبة تبادل التهم بين اللبنانيين هي دائماً سيدة المشهد.
هنا، في بيروت، يستمر التراشق السياسي كما لو أننا أمام صراع بين دول لا اختلاف سياسي بين أحزاب ورؤى سياسية. ولئن كانت الحالة اللبنانية تكاد تستعصي على الحل بحكم تاريخ لبنان السياسي شديد التعقيد وتداخل «الخارج» مع «الداخل» في لعبه السياسية وتركيبته الطائفية المتجذرة فكيف لنا أن نفهم صور الانقسام التي تشهدها قائمة طويلة من بلداننا العربية؟
انظر لخارطة «الخطر» العربي المعاصر وعدد «جدران برلين» العربية التي بناها العرب بأيديهم ومعها «جدران برلين» العربية في طور البناء كي تدرك أن الحالة اللبنانية ليست سوى أحد النماذج الصارخة في المشهد العربي المعاصر. وفي الوقت الذي تواصل مؤسسات البحث المعنية بالتنمية الإنسانية في منطقتنا من عربية وأجنبية موثوقة ونزيهة تذكيرنا بحجم المأساة في عالمنا عبر رصد ظروف المشهد التنموي العربي من بطالة وأمية وتراجع اقتصادي وترد في مستوى التعليم.
وفي الحريات والحقوق، تصر كثير من المؤسسات الرسمية في أكثر من بلد عربي على بناء جدران برلين عازلة بين القرار التنموي الصحيح والحقائق المؤلمة على الأرض! والأسوأ أن تظهر أصوات في العالم العربي تنادي بأن مشكلة كل بلد عربي تبقى محصورة في إطارها القطري الضيق. تلك في رأيي حماقة. ففقر اليمن لن يبقى طويلا مشكلة يمنية فقط. وخطر الأصولية في بلد عربي ما لن يبقى خطراً خاصاً بمحيطه الجغرافي الضيق. وقس على ذلك بقية المشكلات السياسية والتنموية الأخرى في عالمنا العربي.
من هنا يأتي النداء (إن كان ثمة من يسمع) إلى وقفة عربية جادة وصريحة وعاجلة لفهم حجم المشكلة أولاً. هنا تأتي الخطوة الأولى في مواجهة التحديات الكبيرة والكثيرة: لنقرأ المشكلة أولاً. لنفهم تفاصيلها المعقدة ثانياً. لندرك خطورتها ثالثاً. لنبدأ في رسم «خريطة الطريق» لمباشرة الحل. ولتكن الخطوة الأولى في مشروع «الحل» هي البدء الآن في إسقاط أولى «جدران برلين» العربية القديمة: الجهل بحقائق التغيير من حولنا!
في مؤتمر القيادات العربية الشابة الذي عقد قبل يومين في بيروت، اجتمع ما يقرب من 400 من القيادات العربية الشابة على مدى يومين. كانت المجموعة عينة من نخبة الشباب العربي المتعلم المسلح بتجارب نجاح مبهرة في أكثر من قطاع. إنها فعلاً مؤهلة بأدوات تتطلبها ثقافة القيادة المعاصرة من تعليم واطلاع على تجارب العالم وانفتاح على حقائق التغيير في عالم اليوم.
وكان اللقاء فرصة أخرى للتذكير بحجم المشكلة والبحث عن الحلول. ولكن يظل السؤال: إلى متى تبقى مثل هذه العقول المؤهلة بعيدة عن صناعة القرار «التنموي» في العالم العربي؟ تلك النخبة معنية، مثلها مثل آلاف المؤهلين والمخلصين من شبابنا العربي على امتداد الجغرافيا العربية، بهدم ما يمكن من «جدران برلين» العربية. إنها معنية بما أوتيت من تواصل إيجابي مع قيادات سياسية وإدارية في عالمها العربي أن تلح أكثر على لعب أدوار أكبر في إدارة المخاطر وتبني مشاريع التغيير الإيجابي المهم في منطقتنا. إنها مهمة صعبة بل وشديدة التعقيد لكنها أبداً ليست «المستحيلة»!
و هنا حكمة: سئل طاغور: أين يسكن اليأس؟
أجاب: في عقل العاجز!