د. عبد اللّطيف الحنّاشي
تبدو جهود الإدارة الأمريكية الجديدة في التوصّل إلى تحقيق سلام في المنطقة، حثيثة وجادة، بل "ناجعة"!؟. ومن مظاهر ذلك تعددت زيارات المسؤولين الأمريكيين إلى الدول المعنية لترتيب الأمور وبلورة الخطط وتحيينها وذلك قبل اللقاءات المنتظرة والموعودة بين أوباما وكل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس و الرئيس المصري حسني مبارك وبنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل "كل على حدة".
وما ميّز هذه اللقاءات وما أعقبها من تصريحات المسؤولين الأمريكيين هي دعوة هؤلاء للعرب لاتخاذ خطوات عملية تجاه إسرائيل تشجّع على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح؛ من ذلك ما أكدت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة هيلاري كلينتون التي طالبت العرب بالتعبير عن "استعدادهم علنا وعملا للعيش مع إسرائيل بسلام". ثم اعتبار الرئيس الأمريكي باراك أوباما المبادرة العربية بداية بنّاءة، ودعوته الدول العربية إلى إظهار الالتزام بالمسيرة السلمية.
أما نائب الرئيس الأمريكي بايدن فقد رأى ضرورة تقديم "مبادرات" عربية ملموسة تجاه إنهاء عزلة إسرائيل"، وهو نفس الموقف الذي ردده السيناتور جون كيري في كلمته أمام "ايباك" "اللجنة الأمريكية- الإسرائيلية للشؤون العامة" إذ طالب الدول العربية بتعزيز آمال السلام من خلال البدء في "معاملة إسرائيل مثل أي بلد عادي، وإنهاء المقاطعة، والسماح لطائرات العال "الإسرائيلية" بالتحليق فوق أراضيها ولقاء زعماء إسرائيل"! كل ذلك دون الطلب من إسرائيل أن تتخذ موقفا ما تجاه الفلسطينيين.
أما القادة العرب المعنيون فلم يتأخروا، بل سارعوا، بعد عودة الملك عبد الله من زيارته إلى واشنطن، إلى إجراء تعديلات على المبادرة العربية تستجيب لبعض التحفظات الأمريكية والإسرائيلية على المبادرة القديمة؛ ويظهر أن هذه التعديلات، كما توارد، قد شملت مسألة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية والسماح لمن يرغب منهم بالانتقال للأراضي الفلسطينية التي ستقام عليها دولة فلسطينية منزوعة السلاح بعد إجراء مبادلة للأراضي ما بين السلطة وإسرائيل. . . وحتى خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قد صرّح بدوره بأن حركته تسعى إلى إقامة دولة في حدود المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1967، بل إنه وعد الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي بأن حركته ستكون جزءا من الحل. . .
حصل كل ذلك برغم أن فرص التسوية مع الفلسطينيين تبدو معدومة بسبب التصلّب الإسرائيلي؛ ولكن الثقة العمياء في الإدارة الأمريكية وسوء التقدير والهرولة نحو السراب قد دفعت وزير الخارجية المصري للإعلان وبشكل مجانيّ أن بلاده تساوي بين الخطر النووي الإيراني والإسرائيلي رغم أن رام ايمانويل "يهودي صهيوني إسرائيلي رئيس جهاز الموظفين في البيت الأبيض" لم يتردد في القول إن واشنطن تشعر بأنه من غير المنطقي مطالبة العالم العربي بالوقوف إلى جانب أي مواجهة أمريكية إيرانية، حتى لو بقيت إسرائيل خارجها، طالما أن فريق الصقور الإسرائيليين هو الذي يعطّل فرص الحلّ في المنطقة، ويعزز بالتالي منطق الرافضين والمتشددين العرب بكلام آخر: حتى لو كانت لدى العرب، أو بعضهم، تحفظات على مشروع إيران النووي، فإن الاعتماد عليهم في تحالف يواجه هذا المشروع ليس مطلباً منطقياً طالما لم يحصلوا على شيء ملموس. .
ومقابل تلك التنازلات المجانية تواصل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة تعنّتها وتمسكها برؤيتها السياسية خاصة وأن الإدارة الأمريكية لم تطالبها لحدّ الآن بمبادرة حسن النية "سواء في الضفة أو في غزة" حتى على مستوى القول كما فعلت مع العرب الذين استجابوا لذلك بدون تردد. . . إذ تتمثل أولويات الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو، في هذه المرحلة، في كيفية ما تعتبره الخطر الأكبر الذي يتهدد وجود إسرائيل أي سلاح إيران النووي؛ لذلك ربطت مسألة التسوية بمسألة سعي إيران لامتلاك السلاح النووي ووقف نفوذها المتصاعد في المنطقة ودعمها ل"حماس" و"حزب الله"، ودون ذلك فلا مجال لموافقة توافق على محادثات السلام؛ وهو عكس ما تطرحه الولايات المتحدة الأمريكية التي ترى أنه على إسرائيل إذا رغبت في الحصول على الدعم الذي تسعى إليه حيال إيران فعليها التحرك لصالح السلام.
فالمسألتان تسيران جنباً إلى جنب، غير أن هذا لا يمثل في الواقع غير جانب، هامشي، من الاستراتيجية الأمريكية الشاملة في المنطقة والتي تبدو فيها إيران لاعبا محوريا محددا في توجهاتها الرئيسية.
إذ يشير بعض الملاحظين إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي بحاجة ماسّة إلى دور إيراني "تعديلي" في جبهات الولايات المتحدة الأمريكية المركزية الثلاث، أي أفغانستان وباكستان والعراق. فإيران ترتبط بعلاقات وثيقة وممتدة مع الفسيفساء الطائفية والقومية الأفغانية، وبالتالي فإن قدرتها فائقة وناجعة لخدمة المشروع الأمريكي.
أما بالنسبة إلى العراق فكان فخّا نصبته العقلية الفارسية وأوقعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بدون عناء، وبالنتيجة تحول العراق تحت السيطرة السياسية والاقتصادية لإيران. ويمتد النفوذ الإيراني الاقتصادي والمالي والتجاري والبشري، حتى لا نتحدث عن النفوذ المذهبي، واقعيا إلى أغلب دول الخليج العربي ويحيط، هذا النفوذ عمليّا، بكل المصالح الأمريكية في المنطقة ويحاصرها. . . وإلى جانب كل ذلك تمتلك إيران علاقات اقتصادية واستراتيجية مع كل من الهند وباكستان وروسيا والصين. . .
فما الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة الأمريكية غير التفاهم وتقاسم الأدوار معها خاصة أن محاولات الولايات المتحدة والدول الأوروبية لوقف برنامج إيران النووي، عن طريق فرض العقوبات الاقتصادية أو عن طريق التهديدات العسكرية، قد باءت كلها بالفشل. وتبدو الإجراءات المحتملة الأخرى غير ناجعة بدورها على ما يبدو خاصة بعد تمكن إيران من تحقيق إنجازات هامة في التصنيع العسكري البري والبحري والجوي مما يجعل الاعتداء عليها مغامرة قد لا تقدر عواقبها على مصالح الولايات المتحدة المختلفة في المنطقة.
لذلك تبدو مصلحة هذه الأخيرة في الجلوس مع إيران للتفاوض أمرا حيويا لضمان مصالحها من جهة، ولإقناعها بعدم جدوى التقدّم في مشروعها النووي من جهة أخرى. غير أن الأمر لا يبدو ملحّا كثيرا وجوهريا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ بامكانها التعايش مع إيران نووية. وقد يكون الأمر أهون مما هو عليه الحال في باكستان النووية المهددة، سلطتها، من قبل قوى القاعدة.
أما إيران فقد تمكنت بوسائل شتى من القضاء على تيارات الإرهاب وهي تناصب أصلا العداء لمثل تلك الجماعات وتعتبرها خطرا على مشروعها؛ ثم إن "لإيران الدولة" سوابق في احترام التزاماتها الدولية "العراق وأفغانستان" ورغم ما توصف به من تطرّف غير أن باراك امتلك الجرأة للقول بإمكانية التأثير في السياسة الإيرانية بهدف تغيير اتجاهاتها وسلوكياتها دون أن يتعارض ذلك مع الصداقة الأمنية والسياسية القوية التي تربط الولايات المتحدة بحلفائها في المنطقة معتقدا أن ذلك سيساعد على دفع العملية السلمية إلى الأمام، مما يؤدي إلى إسقاط الحلقة الأساسية في مشروع التعبئة الإيديولوجية والسياسية الإيرانية ووضعها أمام الأمر الواقع.
غير أن ذلك يظل مرهونا بالطرفين الأساسيين من المعادلة، بعد أن أسقط الزعماء العرب أوراقهم بدون مقابل، من جهة موقف إسرائيل التي تعتقد حكومتها المتطرفة أن التساهل تجاه إيران سيؤدي إلى تشجيع الطرف الفلسطيني على المناورة والتصلب في المواقف ورفع سقف المطالب دون أن تتمكن الولايات المتحدة من كبح الجموح الإيراني المنفلت بالإضافة إلى ممارسة ضغوط متزايدة على المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات عاجلة وحاسمة ضد إيران بالتوازي مع تشبّثها بمواقفها المعاكسة لحل الدولتين ورفضها التعامل مع نتائج مؤتمر أنابوليس.
وعلى خلفية تلك المواقف تساءل بعض المحللين الإسرائيليين عن قلقهم من احتمال اتخاذ إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما موقفاً "متشدداً" إزاء الحكومة الإسرائيلية الحالية وذلك بهدف دفعها للموافقة على حل الدولتين على الرغم من العلاقات الاستراتيجية التي تربط بين الدولتين.
فهل ترضخ الولايات المتحدة الأمريكية لمصالحها الاستراتيجية الجدية وتتفاعل مع للمتغيرات الجديدة وتضحّي بالتالي بحلفائها "العتّق"؟ أم أن ما تطرحه لا يعدو أن يكون مناورة دبلوماسية ناعمة بهدف تحقيق أهدافها الاستراتيجية دون أن تغّيب مصالح حلفائها؟!. <