لم يعد هناك من شك في أن توالي ظهور فضائح الإدارة الأمريكية السابقة سيظل مستمرًا لفترة ليست بالقصيرة، وربما تكون الخطوات العنترية التي يتخذها الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما تهدف بالدرجة الأولى لاحتواء ردود الأفعال الدولية التي كان من الطبيعي أن تنشأ مع كل دليل جديد يثبت أن إدارة بوش ارتكبت أبشع وأضخم الجرائم بحق الإنسانية والأخلاق وحتى القوانين الدولية.
وعلى الرغم من القرارات التي يحاول أوباما أن يتخذها لتجميل صورة الولايات المتحدة ومحاولة الظهور بمظهر احترام حقوق الإنسان والرغبة في استعادة السلام على المستوى الدولي، إلا أن الكثير من المراقبين يرون في هذه القرارات مجرد محاولة لامتصاص الغضب المتوقع بعد انكشاف كل فضيحة جديدة للإدارة الأمريكية السابقة.
كانت الفضيحة الأخيرة والأعنف للإدارة الأمريكية السابقة والتي أدت إلى تصاعدت أصوات الأمريكيين في أنحاء الولايات المتحدة المطالبة بفتح تحقيقات مع نائب الرئيس السابق ديك تشيني ومسئولين في إدارة جورج بوش السابقة، هي الكشف عن تكليف وحدة "كوماندوز" سرية معروفة باسم جناح الاغتيالات، كانت تتعامل مباشرة مع مكتب تشيني، لتنفيذ اغتيالات ضد أشخاص حول العالم بذريعة تورطهم أو الاشتباه في تورطهم في معاداة الولايات المتحدة.
لقد فجر الصحافي الأمريكي سيمور هيرش هذه المفاجأة وكشف عن تلك المعلومات ثم اعترف كبير موظفي تشيني جون حنا بها أيضًا، لكن لم يكن أحد في ذلك الوقت يتوقع أن المفاجأة الحقيقية لم تكتمل وأن فصول هذه الفضيحة لم تسدل أستارها وأن الصحافي الأمريكي واين مادسن سيكشف عن معلومات تتحدث عن تورط نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني في قتل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري وقائد قوات الكتائب السابق إيلي حبيقة.
ديك تشيني وأسلوب العصابات
ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق الذي لايزال يتشدق بالحديث عن حماية الأمن القومي الأمريكي ويصف سياسات أوباما بأنها متهورة وستضيع المهابة التي تتمتع بها الولايات المتحدة على مستوى العالم، كان طوال فترة حكم الرئيس السابق جورج بوش يتعامل بمنطق رئيس العصابة ويأمر بتنفيذ عمليات الاغتيال ضد شخصيات سياسية في دول مختلفة بالعالم.
لقد مارس نائب الرئيس الأمريكي السابق هذه الجرائم بدون علم وزير الدفاع وبعيدًا عن نظر الكونجرس حيث كانت وحدة "الكوماندوز" السرية المعروفة باسم جناح الاغتيالات تأتمر بأمر تشيني مباشرة، حيث يتم عرض قوائم بأسماء الشخصيات المطلوب تصفيتها ثم يتم البدء في تنفيذ الجرائم.
الإدارة الأمريكية السابقة اعتمدت على أسلوب الحروب الاستباقية واستباحت لنفسها خرق كل المواثيق والأعراف الدولية تحت دعوى تأمين الولايات المتحدة وضمان حماية أمنها القومي، فشنت الحرب ضد أفغانستان والعراق وأعلنت الحرب على "الإرهاب" وأقامت المعتقلات السرية سيئة السمعة، ولم تتوقف عن ممارسة الايتزاز السياسي من خلال التلويح بالقبضة العسكرية عند التعامل مع أية أزمة.
جاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما بوعود التغيير وقرر إنهاء استعمال مصطلح الحرب على الإرهاب، على اعتبار أن التوقف عن استخدام هذا المصطلح يمكن أن يعني أن كل الانتهاكات والاعتداءات التي وقعت فيها الإدارة السابقة في هذا الصدد تعتبر في حكم الملغاة وآثارها المدمرة لا يجب أن يكون لها أي ثمن.
أوباما يحاول ألا تدفع الولايات المتحدة ثمن السياسات الإجرامية التي انتهجتها إدارة بوش، لكن الفضائح لاتزال مستمرة ولا يمكن بحال أن ينظر إلى تورط ديك تشيني في واحدة من أخطر جرائم الاغتيال السياسي في القرن الماضي وهي قتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وكأنها مجرد توجهات شخصية لنائب الرئيس الأمريكي السابق.
إدارة بوش وخدمة أهداف الكيان الصهيوني
لقد حملت جريمة قتل رفيق الحريري دوافع سياسية من الدرجة الأولى وترتبت عليها تحولات جذرية في العلاقات بين سوريا ولبنان من جهة فضلاً عن الضغوط التي مورست على دمشق من ناحية أخرى ودفعت بها إلى مزيد من التقارب مع إيران على حساب دورها العربي الإقليمي، مما أدى في نهاية المطاف إلى شق وحدة الصف العربي ودخول العمل العربي المشترك في متاهة الخصومات والانقسامات.
بالطبع لا يمكن حصر الآثار الخطيرة التي أسفر عنها اغتيال رفيق الحريري، لكنها في كل الأحوال خدمت الأهداف بعيدة المدى للكيان الصهيوني، وكان الاعتماد على فرقة الاغتيالات التابعة لدك تشيني بمثابة الدلالة التي يمكن أن تؤكد للمحللين كيف تم استغلال الإدارة الأمريكية السابقة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للكيان الصهيوني.
الرئيس الأمريكي الجديد أوباما يحاول أن يثبت للعالم أن الولايات المتحدة يمكنها أن تحترم الأخلاق وحقوق الإنسان ويمكنها أن تتوقف عن ممارسة التعذيب، ولكن هذا في نظر الكثيرين لا يعبر عن إرادة سياسية حقيقية وإنما هو تحول مرحلي في الأولويات حيث لم تتوقف الطائرات الأمريكية حتى الآن عن سفك دماء الأبرياء في أفغانستان وباكستان، ولم تتوقف الدبلوماسية الأمريكية حتى الآن عن إمداد الاحتلال الصهيوني بالغطاء اللازم لمواصلة الانتهاكات البشعة بحق المدنيين العزب من أبناء الشعب الفلسطيني.
أما تشيني فإنه وحتى هذه اللحظة يجد في نفسه الجرأة على الظهور على شاشات المحطات الأمريكية ليؤكد أن الإدارة السابقة نجحت في حماية الأمن القومي للأمريكيين، ويتناسى أنه تزعم فرقة دموية من الكوماندوز سفكت دماء الشخصيات السياسية التي كان للكيان الصهيوني رغبة في إزاحتها عن الطريق في وقت معين.
ورغم أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يترك الباب مفتوحا أمام احتمال تقديم مسئولين سابقين في الإدارة السابقة لمحاكمات تتعلق بارتكاب جرائم، وخصوصًا أولئك الذين وضعوا الأسس القانونية لوسائل التعذيب، إلا أن المراقبين يؤكدون أن الحقيقة هي أن إدارة أوباما ستفي بوعدها بعدم ملاحقة ضباط وكالة الاستخبارات الذين طبقوا تلك التقنيات على سجنائهم أو محاكمة الذين صاغوها.
هذه المواقف المزدوجة للإدارة الأمريكية الجديدة تعكس حقيقة أن كشف حساب الولايات المتحدة فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية السابقة لا يمكن أن ينتهي ويصبح كأن لم يكن بمجرد تغيير مصطلح أو قرار بإغلاق أحد السجون أو حتى إعلان انسحاب شكلي لقوات ارتكبت جرائم بحق شعب كامل.<
مفكرة الإسلام