خالد المعيني
عصف حجم الخسائر المادية والبشرية في صفوف القوات الأميركية الغازية بالعراق في المحصلة النهائية، بالاقتصاد الأميركي الذي يشكل عصب القوة في الولايات المتحدة وأساس مكانتها على قمة الهرم السياسي الدولي.
ورغم أن صناع القرار قد حسموا خيارهم السياسي بناء على حجم هذه الخسائر بحتمية الانسحاب، فإن ثمة تناقضا حادا لا تزال تثيره تلك الأرقام المتواضعة التي تتمسك بإعلانها وزارة الدفاع الأميركية لعدد القتلى والجرحى مقارنة بالأرقام الحقيقية التي تشير إليها الكثير من المصادر الأميركية المحايدة والمستقلة التي أدركت في وقت مبكر حجم هذه الخسائر.
ولتوخي الدقة في هذه الدراسة سيتم اعتماد منهجية ومعايير موضوعية تعتمد بالدرجة الأساس على التقارير والمصادر الأميركية الرصينة، وكذلك اشتقاق معادلة لتحديد حجم الخسائر تقوم على أساس تصنيف أنواع الخدمة العسكرية وآليات إعلان الخسائر في الجيش الأميركي، وكذلك تصنيف الخسائر إلى خسائر منظورة مادية وبشرية tangable cast، وخسائر غير منظورة intangable cast وهي تلك المتعلقة بالمكانة والمعنويات والهيبة والتأثيرات النفسية والرعاية الاجتماعية.
إعماء الرأي العام الأميركي
دأب الإعلام الحربي الأميركي كتقليد منذ حرب فيتنام على التقليل من حجم الخسائر الحقيقية، وذلك لاعتبارات تخص طبيعة الرأي العام الأميركي، وشدة تأثيره على عملية صنع القرار السياسي وآليات تمويل الحروب التي عادة ما يتحمل وزرها دافع الضرائب الأميركي، إضافة إلى تأثير ذلك على معنويات الجنود في الميدان.
ففي الفترة من 1965-1968 كان الجيش الأميركي يعلن عن خسائره في فيتنام ببضعة آلاف من الجنود، وما لبث أن تسربت الأرقام الحقيقية التي وصلت إلى أكثر من ثلاثين ألف قتيل وسرعان ما أطاحت هذه الخسائر بالرئيس الأميركي آنذاك جونسون.
وفي العراق وحالما انبثقت المقاومة العراقية وتصاعدت عملياتها، حاولت إدارة الاحتلال منذ البداية التقليل من شأن هذه المقاومة والتعتيم على حجم خسائرها بحجة عدم إعطاء العدو "المقاومة" انطباعا بأنها تحقق انتصارات.
ضمن الجهود الجبارة التي بذلتها الإدارة الأميركية في إخفاء وتزوير المعلومات التي اعتبرتها سلاحا في المعركة بغرض إعماء الرأي العام الأميركي، تم التعامل مع مستويين من المعلومات، الأول يمكن الوصول إليه ويتعلق بالأرقام الرسمية المعلنة والمتيسرة على المواقع الرسمية، والمستوى الثاني المحجوب ولا يمكن الوصول إليه إلا عبر قانون خاص بحرية الوصول إلى المعلومات FOIA لأنه يتضمن الخسائر الحقيقية البشرية والمادية وإعلانها ينطوي على مخاطر سياسية واقتصادية شديدة.
أما الأسلوب الثاني الذي تمارسه الإدارة الأميركية للتحكم في الرأي العام فيتمثل في السيطرة والتوجيه لأسطول الإعلام العالمي الذي تتحكم فيه، فضلا عن ممارسة الضغوط ترهيبا وترغيبا على بقية وسائل الإعلام الداخلية والخارجية.
غير أن امتداد فترة الصراع وتراكم نعوش الجنود وأعداد الجرحى والمنتحرين، وتجاوز كلفة الحرب الحدود القصوى دفع بالكثير من الباحثين واللجان المستقلة الأميركية إلى السعي لكشف الحقائق العميقة للخسائر الأميركية بعيدا عن سياسة التعتيم والتضليل التي ينتهجها البنتاغون.
تحاول الإدارة الأميركية الإصرار على ترويج الأرقام الرسمية التي يعلنها الجيش الأميركي والتي لا تتجاوز أربعة آلاف وبضع مئات من القتلى، رغم معرفة الجميع أن هذه الأرقام لا تشمل أفراد الشركات الأمنية "المرتزقة" الذين يستعين بهم الجيش الأميركي تحت بند خصخصة الحرب، ويقومون بإعمال تتراوح بين صيانة أنظمة الأسلحة والعمليات القتالية إلى حماية الدبلوماسيين الأميركيين ويتجاوز عددهم 160 ألف مرتزق.
كذلك لا تشمل الأرقام الرسمية القتلى من الجنود المتعاقدين مع الجيش بغرض الحصول على الجنسية الأميركية، فضلا عن عشرات الشركات الآسيوية والهندية التي تقوم بخدمات خاصة من الطهي إلى التنظيف وجيش من المقاولين.
معيار الجرحى وعدد الهجمات
لتحقيق أكبر قدر من الدقة لتحديد حجم الخسائر، تم اعتماد أكثر من معيار ومقاطعتها (cross check ) فمن المعروف أن لدى الجيوش التقليدية معادلات تشتق منها نسبة القتلى مقارنة بعدد الجرحى، تعتمد على شدة وطبيعة المعركة وطول فترتها ومدى تطور وسائل الإخلاء الميدانية. . ولأن ما يجري في العراق هو نوع من الحروب غير المتماثلة (un symmetrical wars) أو ما يسمى حروب التحرير أو حروب العصابات، ولتحديد هذه النسبة تم الاعتماد على التقارير الرسمية الأميركية المعلنة للجيش الأميركي والتي توضح أعداد القتلى والجرحى منذ 2003 حتى نهاية عام 2008. . . وبأخذ المعدل average تم التوصل إلى نسبة 1/7 أي قتيل واحد مقابل كل سبعة جرحى، وطبقا لعدد الجرحى المسجلين لأغراض الرعاية والتعويض في وزارة المحاربين القدامى البالغ عددهم 224 ألف جريح، فبقسمة هذا الرقم على نسبة الجرحى إلى القتلى يمكن التعرف على عدد القتلى الحقيقي وهو 224000- 7 = 32000 (32 ألف جندي قتيل).
يمكن تعضيد الحجم الحقيقي لعدد القتلى الذي تم التوصل إليه من خلال جملة من الحقائق والإحصائيات الأميركية ذات الصلة الصادرة والمنشورة من قبل لجان ومراجع أميركية مستقلة ومعتمدة. . ولعل في مقدمة هذه المصادر تقرير لجنة بيكر هاملتون وهو أول تقرير أميركي رصين تضعه لجنة مستقلة من الكونغرس استعانت ب183 خبيرا عسكريا ومدنيا، وتعترف لأول مرة بأن معدل الهجمات في أكتوبر 2006 قد بلغ 180 هجوما يوميا وبواقع 102 قتيل في نفس الشهر.
يأتي تقرير أميركي آخر لا يقل خطورة ليشير إلى الحجم الحقيقي للخسائر، وهو تقرير مكتب المحاسبة الأميركي (G. A. O) الصادر بتأريخ 23 يوليو 2008 لتقييم الحرب على العراق، ليكشف رسميا ولأول مرة عن إجمالي عدد الهجمات التي نفذتها المقاومة العراقية ب164 ألف عملية قتالية مسجلة تحت وصف (مهمة وعنيفة) مع إشارة في نفس التقرير إلى أن هذه الأرقام لم تشمل الهجمات شرق وجنوب البلاد. . وعند إضافة 300 جندي أميركي قتيل خلال فترة الاجتياح لغاية أبريل 2003 وكذلك قتلى مرتزقة الشركات الأمنية البالغ عددهم 1315، سيكون الرقم الإجمالي لقتلى الجيش الأميركي في العراق: 32000 + 1615 = 33615 قتيل حتى 2008، في حين لا تتوفر مصادر دقيقة لإحصاء عدد القتلى الذين قضوا "في حوادث غير قتالية" والمنتحرين أو عدد الجرحى الذين ماتوا في المستشفيات الألمانية أو في الطريق إليها والذين عادة لا يحسبون ضمن أعداد القتلى الرسمية.
إجمالي الخسائر المادية المنظورة
لا تقل الخسائر المادية خطورة في حسابات الكلفة، إن لم تكن أكثر أهمية وخصوصا في حالة الولايات المتحدة الأميركية، وطبيعة تمويل الحروب فيها، فبعد أن كانت كلفة الحرب شهريا 4. 4 مليارات دولار سنة 2003، ارتفعت عام 2008 لتصل 12 مليارا شهريا.
وبلغت القيمة الإجمالية لاحتلال العراق طبقا للمصادر الأميركية وفي مقدمتها تقرير اللجنة الاقتصادية المشتركة التابعة للكونغرس الأميركي، وكذلك الدراسة الرصينة التي نشرها كل من البروفسور جوزيف ستيغليتز عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، والدكتورة ليندا بيلميز الأستاذة في جامعة كولومبيا، واعتمدا فيها على عشرات الوثائق الرسمية وبمعاونة جمعية المحاربين القدامى التي يسرت لهم هذه الوثائق، حيث توصلا إلى أن كلفة احتلال العراق بلغت 1. 8 تريليون دولار، حيث تتضمن الكلفة المخصصة رسميا لتغطية العمليات ومنها أجور العنصر البشري بفئتيهم الجنود والمرتزقة إضافة إلى كلف العتاد الحربي والمعدات العسكرية (الدبابات ومركبات القتال المصفحة والشاحنات والطوافات وطائرات القتال) التي أصبح 50% منها خارج الخدمة والبقية بحاجة إلى إعادة تأهيل أو صيانة لمدة خمس سنين، كما يشير إلى ذلك تقرير بيكر هاملتون في توصيته رقم 48.
تتضمن هذه الكلفة نفقات الرعاية الصحية للجنود المصابين، وكذلك فوائد الديون التي استدانتها الإدارة الأميركية لتمويل الحرب خارج الميزانية المقررة.
لا أدعي فيما توصلت إليه من استنتاجات أنها مطلقة ونهائية، ولكنها أرقام أولية تم التوصل إليها من خلال الاعتماد بصورة تامة على المصادر الأميركية حصرا، وتمثل هذه النتائج الحد الأدنى.
كما أنني لم أتطرق إلى الخسائر غير المنظورة المتعلقة بانهيار معنويات الجيش الأميركي وارتفاع معدل الكراهية للولايات المتحدة في العالم وتهاوي مصداقيتها حول الديمقراطية وتدهور هيبتها ومكانتها على المستوى الدولي، إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة والعجز والمديونية، ومن المتوقع أن تعلن الإدارة الجديدة قريبا بمجرد أن تضع الحرب أوزارها أو على الأقل بعد أن تقوم بسحب جنودها من المدن، عن حجم الخسائر الحقيقية البشرية والمادية التي تكبدتها القوات الغازية في العراق.