عبدالفتاح قاسم الشعيبي
النظام الاقتصادي في كل أمة أساس أصيل من أسس تكونها وعمود رئيسي في هيكلها العام، ولا يمكن أن تكون لها شخصيتها المستقلة ووجودها الصحيح ما لم تكن حياتها الاجتماعية ذات قوانين اقتصادية تحفظ الدخل والخرج وتحافظ على تناسبهما، وتصون الثروة العامة وتجعل للمجهود الفردي فيها قيمة مادية يتكون من مجموعها وجودها الاقتصادي، ولو رأينا أمة متقدمة في المدنية والحضارة وفي العلوم والفنون في المخترعات ووسائل النقل والمواصلات ، وعلو مستوى المعيشة بين أفرادها ، فما من ريب بأن رخاءها الظاهر يعود بالدرجة الأولى إلى حسن تنظيمها المالي والاقتصادي، والعكس صحيح أيضاً، إذ أن الفقر المدقع والانحطاط الزراعي والصناعي والتأخر الفني والثقافي ليس إلا نتيجة حتمية لفوضى النظام المالي والاقتصادي، وإننا لا نجاوز الحق لو ادعينا أن الحروب التي دمرت البشرية في القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرون، إنما كانت محاولات نارية دموية للمحافظة على وضع اقتصادي لإحدى الدول ، أو طمعاً في إنماء الثروة الاقتصادية، أو دفاعاً عن رخاء اقتصادي، وبالتالي فإن ضالة المفكرين الاجتماعيين للقضاء على آفات الناس الثلاث: الفقر والمرض والجهل، تكاد تكون الفقر نفسه، إذ أن الأمراض الاجتماعية كلها تزول بزواله،وهو لا يزول إلا بتنظيم الحياة الاقتصادية للأمة.
أن الأرض التي خلقها الله تكفلت بتقديم الضروريات لجميع أبنائها إذا عقلوا، وهكذا فإن الإنسان الأول كان مكفي الحاجة بقليل من الجهد في الحصول على ضرورات حياته فهو يعتمد على ما يجده من ثمار الأشجار أو من الصيد، ويلبس مما ينتجه الحيوان، ويسكن الكهوف، ولم يكن يحس بما يسمى اليوم "أزمة مالية" ولكن الله قد شاء أن يخلق الإنسان طموحاً إلى تحسين حاله راغباً بطبيعته في الحياة الاجتماعية، مضطراً إلى القرار ما أمكن بحكم تربية أولاده الذين يتطلبون في تربيتهم زمنا أطول مما تقتضيه تربية الحيوان، من أجل ذلك زرع الإنسان الأرض واستقر، وكان اجتماعياً بطبعه، وكلما تقدم به الزمن زادت مطالب حياته ، وتأنق في مسكنه وملبسه ومأكله، ومن الطبيعي نتيجة هذه الحال أن يتفاوت البشر في القدرة على الكسب، إذ أنهم يتفاوتون في المقدرة وفي كافة الصفات الإنسانية الأولى، فمنهم الذكي والغبي ومنهم الماهر والأخرق، ومنهم بعيد النظر والسفيه ومنهم الفيلسوف والمغفل، ومن الطبيعي أيضاً أن تختلف الثروات تبعاً لاختلاف المقدرة والصلاحية، فمن الناس من يعيش عيشه سعيدة، ومنهم من يعيش عيشة شقية، ومنهم من يجد حاجته ، ومنهم من لا يجدها ، وهكذا فإن المدنية كلما تقدمت زادت هذه الأمور تعقيداً ، حتى أطل علينا القرن الواحد والعشرون وهو يحمل في طياته أعسر هذه المشاكل الأممية ويحمل لها مختلف الحلول التي جاءتها ضمن مقترحات، ومناهج ومبادئ ونظم كان لكل منها اسم، وكان لكل منها نعت، غير أنها تشترك جميعها في أهدافها وهي: إرساء الحياة الاقتصادية وتنظيمها، وللأسف الشديد أننا نرى أكثر الحلول التي فتح عليها هذا القرن عينه حلولاً تكاد تصطبغ بالنزعة السياسية،وأنه لمن المؤسف حقاً أن تكون هذه المحاولات "السياسية الاقتصادية" كلها لم توفق في إراحة الناس مما يعانونه ولا اهتدت إلى حل مشكلاتهم التي تقض مضاجعهم، والسبب في عدم توفيقها في خلق نظام اقتصادي منسجم مع المبادئ الخلقية والمثل الإنسانية يعود إلى أن هذه المحاولات نظرت إلى النظام الاقتصادي على أنه مستقل بنفسه وكأن الإنسان فيه ليس إلا "حيواناً اقتصادياً" بدون خلق ولا عقل ولا روح، فمثلهم مثل المهندس الذي يضع كل همه في إصلاح الحائط المائل، من أن يلتفت أدنى التفاتة إلى بناء البيت كله أو كالطبيب الذي يداوي المعدة من غير أن ينظر إلى علاقة المعدة بالجسم كله.