بقلم :ممدوح طه
إلى حد كبير نجح بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر في زيارته البابوية إلى الأرض المقدسة في اجتياز الكثير من الألغام في الحقل الواسع الممتد ما بين الأردن وفلسطين.. ما بين اليهود والمسلمين، دون أن ينفجر أي منها خلال الزيارة، التي بقي على الطرفين تقييمها لمعرفة أي طرف استطاع توظيف نتائج الزيارة أكثر.
فهذا الرجل الألماني بالذات كان قبل الزيارة محلا للانتقاد والشكوك من الطرفين اليهودي والإسلامي، فاليهود كانوا متشككين في تاريخه الشخصي فترة شبابه، حيث كان مجندا في تنظيم الشبيبة الهتلرية، ويطلبون منه كمسيحي إدانة صريحة للمحرقة، وكألماني اعتذارا شخصيا علنيا على مشاركته كجندي، بينما ردت الكنيسة بأنه لم يكن نازيا ولم ينضم للشبيبة بإرادته وإنما التجنيد في زمن الحرب للشباب الألماني كان إجباريا.
ولذلك وجه الرجل إدانة صريحة للمحرقة ووصفها بالوحشية، ووصف النازيون الذين ارتكبوها بأنهم لا يعرفون الله. قائلا في ختام الزيارة: «هناك تم القضاء على عدد كبير من اليهود بوحشية من قبل نظام لا يعرف الله، أشاع ايديولوجية معاداة السامية والكراهية. إنه فصل مريع من التاريخ».. لكنه لم يعتذر صراحة لليهود عن ماضيه الشخصي.
والمسلمون كانوا غاضبين من استشهاده بأقوال تاريخية مقتبسة من حوار بين إمبراطور بيزنطي مسيحي يسيء للإسلام وفيلسوف فارسي إسلامي يدافع عن الإسلام في سياق محاضرة له في جامعة ألمانية، دون أن يستنكر الإساءة، بما يحتمل التفسير على أن البابا يتبنى كلام الإمبراطور باتهام للإسلام بأنه انتشر بحد السيف.
ولذلك أكد بابا الفاتيكان في الأردن في بداية زيارته احترامه العميق للإسلام وللمسلمين، بينما كان قد أعلن أسفه لما سببه ما اعتبره سوء فهم لذلك الاقتباس منكرا تبنيه لكلام الإمبراطور البيزنطي بما يشبه الاعتذار، ولكنه لم يعتذر صراحة للمسلمين عن تصريحه المثير للغضب!
باعتبارها زيارة روحية كانت تصريحات بابا الفاتيكان باعتباره رأس الكنيسة الكاثوليكية متوازنة إلى حد ما مع كلا الطرفين العربي الإسلامي المسيحي والعبري اليهودي رغم ما بدا من عدم رضا من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
وباعتبارها زيارة غير سياسية أبدى بابا الفاتيكان تعاطفا ودعما للقضية الفلسطينية عبر التصريحات الناقدة للاحتلال الإسرائيلي والحصار والمعابر وجدار الفصل العنصري وعبر دعوته لقيام دولة فلسطينية، وإعلانه في بيت لحم في الضفة الغربية المحتلة، تأييد الفاتيكان لحل الدولتين وتعاطف المسيحيين مع اللاجئين الفلسطينيين، ودعوته الإسرائيليين والفلسطينيين إلى إنهاء الحروب وإحلال السلام القائم على العدل.
لكننا مع ذلك لا ندري في الواقع ما إذا كان اختيار توقيت الزيارة البابوية للأرض المقدسة في فلسطين مقصودا أن يتخلله يوم الخامس عشر من مايو أم لا؟!.. ذلك أن هذا اليوم هو يوم فرح صهيوني وفي الوقت نفسه يوم غضب عربي بذكرى اغتصاب فلسطين، وبالتالي فلا نعرف على وجه التحديد إن كان بابا الفاتيكان قد جاء مهنئا لليهود أم جاء معزيا العرب باغتصاب مقدسات المسيحيين والمسلمين ؟!.. أم جاء معزيا ومهنئا في وقت واحد ليرضي كلا الطرفين.؟!.. وهل رضي الطرفان ؟! . والإجابة هي ما يفسر بالمعنى الروحي مغزى زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية لمدينة القدس المحتلة، حيث كنيسة القيامة التي يعتقد المسيحيون أنها المكان الذي صلب فيه السيد المسيح عليه السلام. وهي أيضا ما يمكن أن يفسر بالمعنى السياسي مغزى زيارته للجدار العازل ولمخيم عايدة ولمدينة بيت لحم المحتلة، حيث ولد السيد المسيح عليه السلام، وحيث كنيسة المهد التي حاصرها الصهاينة أثناء الانتفاضة الفلسطينية ضد المحتلين الصهاينة.!