بقلم/ فيصل جلول
ثمة الكثير من المظالم تسخرها الجماعة الانفصالية في خطابها السياسي، ولكن هذا لا يعني أن يتفكك أي بلد إلى أجزاء كلما وقعت مظالم.
الواضح في عرف اليمنيين انه لو كانت قضية الانفصال محقة وتتمتع بمواصفات أخلاقية مشروعة وتحاكي ضميرهم وتعدهم بمستقبل أفضل وتنطوي على رهان اقتصادي واقعي، لما تمكنت من اعتراضها جيوش العالم بأسره وليس جيش الوحدة حصرا. لذا يمكن القول دون مجازفة كبيرة ان الوحدة قادرة على طي صفحة الانفصال الثاني كما طوت من قبل صفحة "الحكومة الانفصالية" الأولى.
اما القراءة السياسة الخاطئة التي تحكم "حراك" الجماعة الانفصالية فهي تنطلق من التقديرات التالية:
أولاً: تعتقد الجماعة أن الانفصال بات ممكنا بعد ظهور الحوثيين وتمردهم في صعدة وإنها يمكن ان تطبق شعار أكثر من جبهة لقهر الوحدة على غرار الشعار الشهير: لابد من اشعال أكثر من جبهة لقهر الامبريالية الأميركية. والمعروف ان الامبريالية التي تحمي قضيتها الباطلة بترسانة تاريخية من الأسلحة والجيوش مازالت على رأس العالم رغم فيتنام وكمبوديا ولاووس بل انتصرت في الحرب الباردة. اما فييتنام فقد انتصرت بالحق وفرضت وحدة اندماجية بين الشمال والجنوب بقوة السلاح رغم انف المحتل ورغم جيش الانفصال الفييتنامي الجنوبي الذي تساقط كقصر من الكرتون وصار في خبر كان. واليوم من يذكر هذا الجيش ومن يذكر عملاء سايغون الكبار والصغار.
موجز القول في هذه النقطة ان الجماعة الانفصالية تراهن على هزيمة الوحدة بفتح جبهة رديفة للتمرد الحوثي وهو رهان خاسر على خطين يقود حاصل جمعهما الى الخراب الذي لا يداعب مخيلة عاقل واحد في اليمن.
ولعل الجماعة نفسها تعتقد ان الفوضى الدولية المعممة عن قصد حول باب المندب وخليج عدن والشواطئ الصومالية تتيح للانفصاليين التواصل مع القوى الدولية النافذة لحماية مشروعهم وفرضه على اليمنيين شريطة ان يحولوا الضفة اليمنية لباب المندب إلى قاعدة أجنبية تكون نظيرة لتلك المقابلة على الضفة الاخرى فيصبح هذه الممر الحيوي واقعا بين فكي كماشة أجنبية. بيد ان هذا الافتراض دونه السحاب فهو جدير بان يلهب اليمن من أقصاه إلى أقصاه تماما كما التهب بعد حادثة السفينة الهندية الشهيرة "دوريا دولت" ولم يكف اللهيب الا مع رحيل البريطانيين عن الأراضي اليمنية.
ولعل الجماعة الانفصالية تعتقد أيضا إن الأزمة العالمية ألحقت أذى بأسعار النفط وبالمصادر الاقتصادية اليمنية وتسعى من هذا الباب إلى طرح كل المطالب دفعة واحدة على الطاولة: من نوع توظيف وإعادة توظيف أو رفع أجور مليون موظف وتظن أنها بهذا الطرح يمكن ان تضع آلاف اليمنيين الذين يعاونون من الضائقة المعيشية بمواجهة يمنيين آخرين لا يقلون ضائقة عنهم. والظاهر ان الغضب افقد هذه الجماعة القدرة على الرؤية الصحيحة ذلك ان اليمنيين بكافة فئاتهم ما عادوا كما كانوا في العام 1990 ما خلا فئة العسكريين القدامى وهؤلاء صاروا متقاعدين وقد سويت أوضاعهم العام الماضي وبالتالي لا يطال هذا المطلب جموعا وحشودا تنتظر ساعة الصفر من الخارج كي تنقض على الوحدة وتأتي بالانفصاليين الى سدة الحكم.
ثانيا: تستعيد الجماعة الانفصالية الثانية حجج الجماعة الانفصالية الأولى: الوحدة هي حاصل جمع دولتين. لقد جئنا بدولة ونريد استعادتها. ولا تنتبه الجماعة اليوم كما لم تنتبه شقيقتها بالأمس إن الوحدة هي فعل ترميم للانشطار داخل شعب واحد وليس بين دولتين وإنها حاصل اندماج هذا الشعب في دولة واحدة هي غير الجمهورية العربية اليمنية وغير جمهورية اليمن الشعبية. ولعل المتحدثين عن الدولة في هذا الحقل لا يدركون ان الدولة هي مجموع الرجال وليس مجموع المباني والإدارات فما قيمة المباني والإدارات بدون الرجال والنساء وإذا كانت الدولة هي البشر ولا شيء غير ذلك فان البشر موحدون في يومياتهم. منهم الغني ومنهم الفقير. منهم النافذ ومنهم الذي لا يتمتع بنفوذ. وهم في هذه الحال ككل شعوب الارض لذا لا يبقى من الدولة التي يجري الحديث عنها غير الجماعة الانفصالية المتضررة من الوحدة والتي تريد دولة على مقاسها وليس على مقاس اليمن.
ثالثا: يسيل لعاب الجماعة الانفصالية على براميل النفط لذا يدعو الناطقون باسمها الى تكوين دولة منفصلة حول حقل نفطي هنا او هناك في حين ان النفط جعله الله لاهل اليمن ولم يحصره بفئة هنا وفئة هناك واذا كان تعداد اليمنيين يفوق ال 22 مليون نسمة فلماذا ترضى كل هذه الملايين بحرمانها من مصدر عيشها شبه الوحيد لصالح جماعة من المتضررين السابقين واللاحقين من النظام الوحدوي ولماذا تشد على ايديهم وتؤيد مشروعهم؟
رابعا: تتحدث الجماعة الانفصالية عن قضايا محقة لا يمكن نكرانها. فهي تشير الى نهب الاراضي وقد نهبت اراض، وهي تشير الى الفساد وهو قائم، وتشير الى مظالم في الوظيفة وهي صحيحة في معظمها، وتشير الى تعديات من الصعب حجبها. لكن مجمل هذه الاشارات لا قيمة عملية لها لانها تستخدم كذرائع في خطاب انفصالي او كوسائل في سياق التعبئة الانفصالية. لنتخيل هذه الحال في اي بلد من بلدان العالم فهل تستدعي المعالجة تحت السقف الوطني ام تستدعي تشكيل دولة منفصلة عن الوطن؟ هل يحق لمنطقة في مصر او السعودية او سوريا او المغرب او الجزائر الانفصال عن الدولة الام جراء المظالم المذكورة؟
تبقى الإشارة الى ان تلك المظالم وغيرها لا تطرح بحجم محدد وانما بصيغة شاملة من نوع ان كل أراضي هذه الجهة منهوبة من ابناء الجهة الأخرى او ان الوظائف محصورة بهذه الجهة ومحظورة على أبناء الجهة الأخرى وان التعديات تتم باتجاه واحد. واذ تقدم المطالب بهذه الصيغة فان الذين يقدمونها يقفلون أبواب معالجتها ولأنهم يدركون إن معالجتها متعذرة بالصيغة المطروحة فهم يتعمدون طرح الانفصال كحل لها وفي هذه الحالة ينتقلون بالمطالب من منطقة الحق الى منطقة الباطل.
وهنا لابد من وقفة مع أصحاب النوايا الحسنة الذي يقولون بوجوب التصدي للنهب والفساد والمظالم والتعديات كي لا تستخدم كذرائع للانفصال. هنا يجدر لفت الانتباه الى ان المطلوب علاج هذه المسائل ليس من اجل قطع الطريق على الانفصال والانفصاليين وانما لانها مسائل عادلة وقائمة بذاتها وتستحق العلاج والتسوية اما الجماعة الانفصالية فانها لا تريد الوحدة اصلا مع وجود هذه المظالم او عدم وجودها وهي تصرح بذلك يوميا وتؤكد لمن يريد ان يسمع انها غير معنية بالوحدة لا بل تستخدم مصطلحا صريحا من نوع "اليمن والجنوب" وبالتالي لا بد من التعاطي معها بصفتها تلك وليس بوصفها نقابة مهنية تكف عن الإضراب والتظاهر عندما تستجيب الحكومة لمطالبها المرفوعة.
حاصل القول ان الوحدة في عامها التاسع عشر صارت راشدة وبالتالي فان التحديات التي تواجهها هي من النوع الوحدوي أي حسن تدبير شؤون الوطن وأهله ورفع شانه بين الأمم اما المخاطر الانفصالية بصيغتها المذهبية او الجهوية فإنها مستمدة من الماضي ولا تعد اليمنيين بمستقبل أفضل.
في العيد التاسع عشر للوحدة اليمنية يبدو الخطاب الانفصالي اشبه بغيمة لا تمطر وبالتالي لا زرع يرتجى منها ولا محصول يعول عليه. اما التيار الوحدوي اليمني فلا خوف عليه ما دام مصمما على مخاطبة العالم بشعار: الوحدة او الموت. <
نقلا عن ميدل ايست اون لاين