بقلم / جلال عارف
لعلها القارعة التي آفاق الجميع في القاهرة على وقعها ليدركوا حجم الخطر الذي طال التنبيه إليه والتحذير منه. فوسط أحداث سياسية مهمة في مقدمتها الاستعداد لاستقبال الرئيس الأميركي أوباما ليلقي خطابه المنتظر للعالمين العربي والإسلامي.
ومع تصاعد الجهود لرأب الصدع العربي وإنهاء الانقسام الفلسطيني، ومع توالي التحديات الداخلية وسط ظروف الأزمة المالية والاقتصادية ومطالب الإصلاح الديمقراطي.. يأتي الخبر الصادم ليستقبله الجميع بكل الاهتمام، وبكل القلق !
الخبر يقول باختصار: إن مصر قد رفضت التوقيع علي الاتفاقية التي تم إعدادها لتنظيم توزيع مياه النيل بين دول حوض النهر. والمثير هنا أن مشروع الاتفاقية هو حصيلة مبادرة مصرية في الأساس تقدمت بها القاهرة قبل اثني عشر عاما بهدف إقامة مشروعات مشتركة للاستفادة من فاقد المياه الذي يقدر بنحو 96 % من مياه النهر، وإنشاء هيئة مشتركة لإدارتها، وضمان عدم الأضرار بحقوق الشركاء في مياه النهر وعدم المساس بالحقوق التاريخية لهم، وعدم نقل مياه النهر إلى خارجه أو بيعها، لتكون من حق حوض النهر وحدها.
وقد استمر العمل من اجل إنجاز الاتفاق على مدى هذه السنوات، وكان يقود الفريق المصري خلالها الوزير السابق للري الدكتور محمود أبو زيد الذي نحى عن موقعه قبل شهور. وأخيراً فوجئ الوفد المصري في آخر اجتماع لممثلي دول الحوض أن الاتفاق المقترح لا يتضمن نصاً صريحاً بعدم المساس بحصة مصر من مياه النيل وحقوقها التاريخية المكتسبة.
وأصر علي تعديل يتضمن هذا النص. كما طلبت مصر التزاما صريحاً في الاتفاق من دول أعالي النيل بإتباع القواعد المقررة من البنك الدولي عند إنشاء أي مشروع مائي أو كهربائي يقوم علي مياه النهر، بضرورة الحصول علي موافقة باقي دول حوض النهر، كما طلبت النص علي أن يكون أي تعديل في الاتفاقية بالإجماع أو باشتراط موافقة دولتي المصب (مصر والسودان) إذا تم إقرار مبدأ اتخاذ القرارات بالأغلبية، لان الدولتين هما الأكثر تضرراً بأي قرارات تؤثر علي مياه النهر.
ورغم أن الحوار حول الاتفاق سوف يستأنف خلال شهر يوليو القادم في اجتماع تعقده دول حوض النيل بمدينة الإسكندرية، إلا أن مصر كانت حريصة علي إعلان موقف حاسم يرفض المساس بحقوقها، كما كانت حريصة علي إيصال رسالة تتعدي الدول الشريكة في مياه النيل، حيث أعلنت بوضوح، وعلي لسان الوزير المسؤول، «أنها ترصد التحركات الإسرائيلية التي تستهدف التأثير علي موقف بعض دول حوض النيل».
التحركات الإسرائيلية هنا ليست جديدة، فبعد سنوات كانت القاهرة هي كعبة ثوار افريقيا وهم يخوضون معارك الاستقلال والتحرير أيام عبد الناصر.. تغيرت الأمور، ومع ذلك ورغم التوجهات الجديدة لأنور السادات ظلت العلاقة مع دول حوض النيل محل اهتمام القاهرة، لكن إسرائيل كانت تجد الفرصة لتتحرك خاصة بعد اتفاقيات كامب ديفيد ثم اوسلو التي أنهت مقاطعة الدول الأفريقية لها.
وكانت إسرائيل تدرك أن تحركها يحقق لها أموراً كثيرة في مقدمتها أن تكون شريكاً في امتلاك الورقة الأهم في الضغط علي مصر وهي مياه النيل، وأن تنكفئ مصر إلى الجنوب فتترك لها الساحة في المشرق العربي تتحرك فيه كما تشاء، وأن تقايض لتحقيق حلمها بوصول مياه النيل إليها، كما وعدها السادات يوماً فانتفضت مصر كلها تقاومه.
ورغم أن مصر تعرف أن عجز المياه عندها سيصل بعد خمسة عشر عاما فقط إلى أكثر من 30 مليار متر مكعب، فإن حرصها الآن هو في التأكيد علي حصتها الحالية من المياه (55 مليار متر مكعب)، علي أمل أن تسهم الاتفاقيات والمشروعات المشتركة في توفير جزء من المياه المهدرة تستفيد منه هي وكل دول الحوض. لكن المؤامرات لا تنتهي، وإسرائيل تكثف تحركاتها.
وفي السنوات الأخيرة بدأ الحديث عن مشروع لإنشاء عدد كبير من السدود في اثيوبيا لحجز المياه، ومن هنا كان الجهد المصري لمحاولة تنظيم العمل بين دول الحوض لتوفير المطلوب من المياه لها جميعا دون المساس بالحقوق القانونية والتاريخية للأعضاء !
و لكن ها هو مشروع الاتفاق يأتي متجاهلاً الحقوق المصرية، فترفض مصر التوقيع ويدرك الجميع أن حرب مياه النيل دخلت مرحلة جديدة وخطيرة. ومصر لا يمكن أن تتهاون فيها فهي تعتمد علي هذه المياه بنسبة 95 % من احتياجاتها المائية، في حين أن دولة مثل اثيوبيا لا تعتمد علي مياه النهر إلا بنسبة 1 %.
ومصر هي المتضرر الأكبر من أي عبث بالحقوق الثابتة ومعها السودان التي تعتمد بنسبة 15 % من احتياجاتها. وسوف تزداد الأمور تعقيداً إذا سارت الأمور بين شمال السودان وجنوبه في طريق الانفصال.
وبغض النظر عما ستصل إليه المفاوضات حول الاتفاقية المقترحة، فإن حرب مياه النيل قد دخلت مرحلة الخطر، وهي بالقطع لن تكون الوحيدة في حروب المياه التي تهدد المنطقة، ولكنها قد تكون الأقرب حين يكون مطلوباً أن تبتعد مصر عن اهتماماتها في المشرق لتواجه الخطر الهائل القادم من الجنوب!.<