توقفنا في الحلقة السابقة عند صفقة الأسلحة الروسية التي كان ينوي "البدر" مواجهة أعداء النظام الملكي بها.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأسلحة كانت تأتي عبر ميناء الصليف بعد صلاحية ميناء الحديدة، ورافق الشحنة خبراء روسيون قاموا بدورهم بقيادة الدبابات من ميناء الصليف إلى العرضي في الحديدة.
وقد لوحظ عدم صيانة تلك الدبابات خلال تحركها في الطرق الوعرة حتى منطقة تجمعها وفي العرضي كان العمال والحمالون يتولون عملية إزالة الأتربة العالقة بالدبابات والتي لحقت بها أثناء سيرها.
وفي تلك الأونة كنت في عرضي الحديدة ومعي بعض أفراد من بلك التركي حيث كنت أقضي معظم الوقت بجوار الدبابات مع العمال المكلفين بنظافتها وبالطبع كانت الدهشة والاستغراب وأنا أتطلع إلى شكل الدبابة وكل شيء داخلها وخارجها باعتبار أن ذلك منظر جديد بالنسبة لي وغريباً في نفس الوقت والأكثر من ذلك أكرر الطلوع والنزول من وإلى الدبابة، وساعدني في ذلك العمال الذين لم يمنعوني من مزاولة رغبتي.
تشغيل أول دبابة
خلال فترة الفراغ التي قضيتها في العرضي بجوار الدبابات أقدمت على تحريك أحد أزرار التشغيل ونتج عن ذلك إدارة مراوح شفط الغاز وصدور صوت أدهشني فذهبت إلى العامل الذي فوق الدبابة سائلاً عن مصدر الصوت فرد بأنه قام بتحريك أحد الأزرار وقمت فوراً بالضغط على الزر ولكن بقوة مما أدى إلى دوران محرك الدبابة محدثاً صوتاً مرتفعاً، وكانت مفاجأة دفعت بالعمال إلى الهرب من على الدبابات، وعندها حاولت إسكات الصوت العالي ضاغطاً على نفس الزر عدة مرات ولكن في كل ضغطة على الزر كانت تحدث صوتاً مرتفعاً أكثر وكنت أعتقد في وقتها أن الزر الذي حركها هو الذي يقوم بإطفائها.
وهنا أود الإشارة إلى أنه تملكتني الحيرة والشعور بالخطأ الذي ارتكبته وتملكتني أيضاً حالة عدم اتزان ورهبة من العواقب المنتظر أن تنجم من جراء ما قمت به، الكل كانوا ينتظرون بدهشة ويتحدثون بأن كارثة قادمة لو حدث لا قدر الله حريق للدبابة فسوف تؤدي بالحديدة ومن يسكنها إلى الهلاك، وسمعت أخر يقول إذا انفجرت الدبابة فسوف تقلب الحديدة إلى بحر.
حتى أن البعض اندفع إلى استدعاء المسؤولين الذين يسكنون المدينة وأذكر أنه من ضمن هؤلاء كان الأخ/ عبدالله البصراوي والبروي، وحينذاك طلب البصراوي من الحاضرين إذا يملك أحدهم القدرة على إسكات الدبابة وإطفائها ولكن لم يتلق أي رد من أحد، وعندها توجه اثنان من الجنود قاصدين دار الضيافة وهو المقر الذي يقيم فيه الخبراء الروس، ولكنهم لم يجدوا أحداً منهم، فكانوا قد ذهبوا إلى الصليف لقيادة بقية الدبابات وإيصالها إلى الحديدة ، وبعد ذلك قام الأخ/ عبدالله البصراوي بصرف الجنود وإلزام بعض الجنود بالتوجه إلى الصليف وإبلاغ الخبراء الروس بضرورة وصولهم لمواجهة ما نحن فيه.
وصرح الخبراء الروس بأن الأمر لا يستدعي بقاء الجندي في الحبس، ولكن البصراوي في تلك الظروف طلب من الخبراء الروس عمل تقرير لولي العهد برغم أن الأمر لم يكن يستدعي ذلك، حيث أفاد الخبراء بأن الحادث بسيط جداً ،ولكنه أضطر لإبلاغ المسؤول الكبير ويقصد به ولي العهد.
بعد ذلك طلب الخبراء التعرف على الجندي، وأحضرت إليهم ولم أكن أعرف في حينه من هو كبيرهم حتى صاح أحدهم والذي أتضح فيما بعد أنه المسئول عنهم أو كبير الخبراء وذلك عندما شاهد القيد يكبل قدمي قائلاً "مش لازم كلابوش" حيث كان مشهدي وأنا مكبل بالأغلال غريباً عليهم ولم يسبق أن شاهدوا مثل تلك المناظر ويكرر أنه ليس من الضروري بقائي مقيداً.
وأضاف مستغرباً مخاطباً البصراوي : إنكم أرسلتم لنا أفراداً إلى الصليف تطلبون منا سرعة الوصول من أجل إطفاء دبابة ،وأنكم حتى اليوم لا تملكون من هو قادر على التعامل مع المعدات في الوقت الذي بدأ الروس يعملون سلسلة من التجارب والبحوث والصعود إلى القمر، بينما أنتم لا تعرفون كيف تسكتون محرك الدبابة.
وقد نجح الروس بعد سنوات في إرسال حيوانات، وتم إرسال أول رائد فضاء وهو "جاجارين" وأعتبر ذلك الكلام توبيخاً ونقداً مباشراً للوضع حينذاك وبالطبع كان ذلك بمثابة مقدمة موجة للحاضرين ومنهم أمير المركز بضرورة سرعة إطلاق الجندي، خاصة بعد الكشف على الدبابة والتأكد بعد فحصها من خلوها من أي أعطال ناتجة عن الحادث السابق.
وأقتنع أمير المركز طلب الخبراء الروس بسرعة إرسال برقية إلى ولي العهد لإبلاغ بما تم وأنه لا لزوم لبقاء الجندي مسجوناً ولو يوم واحد.
وأبدى البعض الرغبة بضرورة كتابة تقرير منهم ولكنهم ردوا بأن الحالة لا تستدعي ذلك وبعد عدة أيام وصل الرد على البرقية مفيداً بإطلاقي.
تغير الموقف ... وترشيح من يتدرب على صيانة وقيادة الدبابات
يقول المؤلف: بعد استعراض ما حدث بان في الموقف نوعاً من التغيير، وما كان مني إلا طلب الإذن من الأخ/ عبدالله البصراوي بالانصراف،ولكنه أشار بيده وهو يفتح مظروفاً من ولي العهد مفاده أن ولي العهد طلب من أمير المركز سرعة اختيار خمسة وعشرين جندياً للتدريب على قيادة الدبابات، مشترطاً أن يكون المرشحون من الشباب الأقوياء النشطين، فسررت كثيراً لهذا الخبر وطلبت منه أن يكون اسمي في المقدمة وفوجئت بالترحيب بطلبي قائلاً: أنت أول من شغل الدبابة إضافة إلى ما يتوفر فيك من الشروط التي طلبها ولي العهد في رسالته.
وعندها عرفت بأن الرجل يحمل من الوعي والإدراك الكثير وأن له مكانة مرموقة من خلال تصرفاته وأعماله وتعامله مع الآخرين.
بعد جهود كبيرة بذلت من قبل المكلفين بتنفيذ شروط القبول المحددة من ولي العهد تم تجميع مجموعة من الزملاء الذين تتوفر فيهم الشروط للتدريب والتأهيل على قيادة الدبابات وكان ذلك بالطبع تحت إشراف الخبراء الروس المكلفين بتلك المهمة وفقاً للاتفاق الذي تم على أساسه حصول اليمن على صفقة الأسلحة المشار إليها.
فكان الخبراء يساعدوننا على التعلم وبحذر شديد وذلك بالرغم من العدد المحدود من الذين كان لديهم الرغبة في معرفة أجزء الدبابة وطريقة التشغيل إلى غير ذلك من الخطوات الأساسية ومنها تشغيل وتحريك الدبابة إلى الأمام والخلف.. حيث كان معظم أبناء الوطن لا يكادون يعرفون السيارة ولم تكن توجد سوى بعض السيارات الخاصة والمحدودة للغاية والتي كان يعتقد من يقودها بأنه يعامل مع مركبة فضائية.
وعودة إلى التدريب حيث كنا نستغل غياب الخبراء بعد الظهر لنقوم بتشغيل الدبابات خاصة بعد أن نتعرف على بعض المعلومات اللازمة لذلك ، كما كنا نقوم بتحريكها إلى الأمام وإلى الخلف بينما كان يتملكنا الحذر والخوف الشديدين وطبعاً عند قيامنا بعمل ذلك كانت الجنازير تترك أثراً على الأرض فكنا نسير بإزالة تلك الإشارة حتى لا يعرف أحد بما قمنا به، وكنا نخشى معرفة الخبراء بذلك حتى لا تصدر أوامر أو تعليمات جديدة بعدم التشغيل بعد الظهر، إضافة إلى الخوف من أي إجراءات قد تصدر في حقنا باعتبارنا مخالفين برنامج التدريب وخلال تلك الفترة تمكنت من معرفة أشياء كثيرة عن الدبابة وقيادتها.
قيادة الدبابة.. والمشكلة الثانية
تحت هذا العنوان يتحدث المؤلف بقوله : وفي أحدى المرات أثناء التدريبات الأولية والأساسية وبالرغم من تلك الأعمال التي كنا نقوم بها بعد الظهر يومياً لتشغيل الدبابات وتحريكها إلى الأمام والخلف إشباعاً لرغباتنا وتحقيقاً لهدفنا الوحيد وهو القدرة على تشغيل وإدارة الدبابة تزايدت الرغبة الممزوجة بنوع من الخضول والجرأة المدفوعة بتزايد الثقة بالنفس على القدرة على التعامل مع هذا الجسم الضخم من الحديدة قمت أنا واثنان من الزملاء لا أذكر اسميهما بتشغيل الدبابات كالعادة بعد كل ظهر وقمت بدوري بتحريك الدبابة إلى الخلف وتحريك أذرع القيادة التي تتحكم في الدبابة يميناً وشمالاً فتوجهت الدبابة صوب باب العرضي ورغم محاولتي إعادتها إلى الموقع السابق فإنني وللأسف الشديد لم أتمكن من ذلك وعندها قلت في نفسي إن الاتجاه إلى الأمام والخروج بها أفضل وسوف تعود بعد ذلك إلى مكانها.
وحينئذ لم أجد حلاً للخروج من المشكلة إلا أن أخرج من الباب وكان حولي أعداد كبيرة من العساكر يشاهدوني وأنا في الدبابة وهي تخرج من العرضي وخرجت من البوابة بتوفيق وعون من الله دون أن يحدث أي شيء وكانت الطريق حينها خالية ابتداء من باب العرضي حتى مشروع مياه الحديدة الذي يمدها بمياه الشرب بواسطة الجمال والدواب والحمالين، حيث كانت مياه الشرب تباع للمواطنين في الحديدة والمناطق المجاورة لها.
وبعد ذلك وفي ظل الرغبة الشديدة في إكمال المهمة بنجاح حاولت العودة بالدبابة سالكاً الطريق الذي خرجت منه ينتابني شعور بالنشوة لأن هدفي قد تحقق وأصبحت سائق دبابة ولم أكن أصدق نفسي أو أتصور ما حدث حينها إذ حاولت الظهور مفتخراً يسودني إعتقاد بأن كل الناس تعرف أني سائق الدبابة.<