جواد البشيتي
إنَّها ليست جريمة تُرْتَكَب في حقِّ البشرية أنْ تَحْتَكِر قلة قليلة من العائلات ما يزيد عن نصف تجارة الغذاء العالمي، وأنْ تتوفَّر الآن على شراء الغذاء الرخيص "الحبوب على وجه الخصوص" لخزنه، ولبيعه عندما تتهيَّأ الأسباب للغلاء الغذائي، فتجني أرباحاً وحشية من الفرق بين السعرين؛ وليتأكَّد، من خلال تلك المضاربة، أنَّ مئات الملايين من البشر لا يملكون من الغذاء إلاَّ "الحق "الورقي" في الغذاء"!
سنة 2008 عرفت الأزمة الغذائية العالمية، فأسعار الغذاء "والحبوب على وجه الخصوص" ارتفعت كثيراً "45 في المئة" فعَجِز مئات الملايين من البشر، في البلدان الفقيرة، عن تلبية حاجتهم إلى الطعام ولو بما يبقيهم على قيد الحياة. . حياة يحسدون فيها الحيوان على نعيمه الغذائي!
ونُسِبَت الأزمة، في بعضٍ من أسبابها، إلى "الوقود الحيوي"، فارتفاع أسعار النفط شجَّع على إنتاج الطاقة "الصديقة للبيئة ولو من خلال معاداتها لحق البشر الفقراء في الغذاء" من مصادر غذائية، فتقلَّص إنتاج الغذاء عالمياً. وكلَّما عَظُم معدَّل الربح في قطاع "الوقود الحيوي" اتَّسع الفرق بين العرض والطلب في سوق الغذاء العالمي بما تسبَّب بصبَّ مزيدٍ من الزيت على نار الغلاء الغذائي العالمي.
سنة 2009 انفجرت الأزمة المالية العالمية، وأصيب العالم بالشلل الإقراضي، فالمصارف توقَّفت عن الإقراض في اقتصاد عالمي لا يعيش إلاَّ بالدَّيْن؛ ثمَّ ضرب الركود والكساد الاقتصاد العالمي، فتراجع الإنتاج، وانكمش الشراء، واستشرت البطالة؛ ولكنَّ الغلاء ظلَّ على وجه العموم ملازماً الركود.
منسوب الغلاء في أسعار الغذاء هبط وتراجع؛ ولكنَّ هذا الرخص الغذائي العالمي النسبي ظهر، في العيش اليومي لمئات الملايين من البشر، على أنَّه أقرب إلى الغلاء منه إلى الرخص، فاستشراء البطالة، مع تضاؤل القيمة الاقتصادية الحقيقية للأجور والرواتب، أعْجَز هذا الرخص الغذائي النسبي عن إفادة الفقراء، الذين التهمت طبقتهم أجزاء واسعة من الطبقة الوسطى.
أمَّا سنة 2010 المقبلة فيُتوقَّع أن تَشْهَد استئنافاً لأزمة الغذاء العالمي، فالانتعاش الاقتصادي المتوقَّع حدوثه عمَّا قريب، سيشدِّد الطلب العالمي على الطاقة النفطية والطاقة الغذائية، أي الغذاء؛ ولسوف نعود إلى معاناة عواقب تلك العلاقة السببية بين أسعار النفط وأسعار الغذاء، فسعر برميل النفط ما أن يرتفع حتى تتهيَّأ الأسباب لارتفاع أسعار السلع الغذائية.
أسعار تلك السلع سترتفع؛ لأنَّ النفط يَدْخُل في إنتاجها؛ ولأنَّ ارتفاع أسعار النفط سيغري بإنتاج مزيدٍ من "الوقود الحيوي"، فتتضاءل مساحة الأراضي الخاصة بإنتاج الغذاء "والحبوب على وجه الخصوص". ويكفي أن ينتعش التوظيف حتى يشتد الطلب العالمي على غذاء تراجع عرضه في الأسواق، فيشتعل فتيل أزمة غلاء غذائي عالمي جديدة.
ولا شكَّ في أنَّ عوامل بيئية طبيعية كثيرة، في مقدَّمها نقص المياه والجفاف والتصحُّر والفيضانات وارتفاع مستويات البحار، ستساهم في تنمية النقص الغذائي العالمي، أي في زيادة الغلاء الغذائي العالمي.
إنَّهم آكلو لحوم البشر، فهل من فرق كبير بين أن تأكل لحم البشر مباشرةً وبين أن تأكله من خلال منعكَ اللحم والغذاء الأساسي عن مئات الملايين من البشر؟!
وهؤلاء لديهم من "العنصرية الطبقية" ما يزيِّن لهم إنتاج مئات الملايين من البشر المهدَّدين بالموت جوعاً، أو بأمراضٍ متأتية من نقص وسوء التغذية؛ وهم لا يكترثون لمئات الملايين من البشر الذين ما عادت أجورهم ورواتبهم تكفي، مهما زيدت، إلاَّ لشراء الغذاء الأساسي، ف"حصَّة الحضارة"، أو "الحاجات الأخرى"، من الأجر والراتب ليست بالأمر الذي يستحق أن يشغل حيِّزاً من اهتمامهم، فالعالم يصبح أفضل وأجمل إذا ما امتلأ ببشرٍ تمتلئ نفوسهم بالضعف الأخلاقي والإنساني الذي يتولَّى الفقر والجوع إنتاجه وتنميته.
والحضارة عندهم هي التي تضرب جذورها عميقاً في إفقار وتجويع مئات الملايين من البشر، وكأنَّها "حضارة النقص "أو الشح" الغذائي"، فالوفرة الغذائية يجب أن تظل امتيازاً استهلاكياً فئوياً ضيقاً؛ والثروة المادية للمجتمع يمكن ويجب أن تنمو؛ ولكن بما لا يسمح ل "حق الإنسان في الغذاء" بأن يصبح حقيقة واقعة، مع أن العالم في مقدوره أن ينتج من الغذاء ما يكفي لإخراج الغذاء نهائياً من الاقتصاد البضاعي!. <