نجيب غلاب
لا شيء يوحي بالتفاؤل فالصراع بين القوى الوطنية في يمن اليوم قد بلغ مبلغاً خطيرا اجتاحته ثقافة الثأر والكراهية والرغبة الجامحة في الاستيلاء على المصالح بمعزل عن الآخرين، وخطاب الإلغاء والإقصاء المتبادل يوضح فقدان الثقة بين جميع الأطراف، وما يزيد من وطأة الأزمات هو بروز قوى فوضوية في الساحة لم تعد مهمومة بالوطن ولا بمصالح الناس بل تحركها عقائد سياسية ودينية متخلفة متناقضة مع أبسط مبادئ المشروع الوطني الذي أسست له الحركة الوطنية خلال الستين عاما الماضية، ويهيمن عليها أوهام أصولية أو قبلية أو جغرافية.
ففي خضم صراعات النفي واثبات الوجود ظهرت ثلاث حركات فوضوية في الساحة اليمنية هي الحراك الجنوبي الداعي لانفصال الجنوب عن الشمال وتنظيم 'القاعدة' والحركة 'الحوثية' في صعدة بمشروعها المذهبي والسياسي المرتبط بطهران، والمدعوم بتيار مؤثر وفاعل في الدولة والمجتمع موال لإيران سياسيا، هذا الثلاثي المدمر لمستقبل اليمن والمهدد لأمن المنطقة وأمن الممرات المائية يستغل صراع القوى السياسية والاجتماعية على موارد محدودة ودولة شبه منهكة وعلى مجتمع فقير بالكاد يغطي حاجاته الأساسية، وقد تمكنت هذه الحركات النابذة للدولة من فرض وجودها بقوة، والخطير في الأمر أن البعض يوظفها في الصراع المحموم على المصالح.
ما يجمع هذا الثلاثي في حركته ومطالبه أنه يثير الاضطراب وأهدافه اشعال الحروب ليتحول رغم شعارات السلم المرفوعة لدى الحراك في الجنوب إلى أداة هدامة مدمرة للدولة واستقرار وأمن المجتمع، ورغم تناقض الأفكار والأهداف واستراتيجيات الحركة لدى هذا الثلاثي المدمر إلا أن الرابط الأكثر وضوحا الذي يجمعهم هو معاداة المشروع الوطني الذي أسست له الحركة الوطنية، ويسعون لضرب النظام السياسي والقضاء على دولة الوحدة وتحويل اليمن إلى مركز لنشر الفوضى في المنطقة.
ومع الوقت تتكشف للمراقب العلاقة بين هذه الحركات الفوضوية فقد صرح ا لع ميد النوبة قبل عام تقريبا وهو من ابرز القيادات الداعية للانفصال والذي يدعو للعنف أن حركة الجهاد والقاعدة قد انضمتا إلى الحراك الجنوبي، وعندما سأل د.ناصر الخبجي وهو أيضا من أبرز قيادات الحراك الجنوبي عن الموضوع مؤخرا لم ينفه وأكد على الخيار السلمي ثم أضاف أن 'الحراك مفتوح للجميع، ليس حكراً على أحد أو فئة بعينها'، ولم تتضح تصريحات العميد النوبة إلا بعد انضمام طارق الفضلي وهو من الرموز الجهادية في اليمن، وقد صرح مؤخرا لصحيفة محلية أن علاقاته بالقوى الجهادية قوية وعميقة ونفى أي علاقة له بالقاعدة، إلا أن مقارنة خطاب الفضلي مع البيان الذي أعلنه زعيم 'تنظيم القاعدة في جزيرة العرب' سيجد شبه تطابق في الرؤى المطروحة.
وما سيمكن القاعدة من الهيمنة أن الدعوات الانفصالية تتحرك بلا مشروع فكري ومشروعها السياسي مشتت ومرتبك ويستند على قيم الوعي القبلي في مواجهة دولة الوحدة، وهذا الفراغ في ظل التعبئة المستندة على بث الكراهية والحقد سيجعل الأفكار الدينية 'الجهادية' التي دشنها ناصر الوحيشي تلقى استجابة قوية لدى الفئات الشابة التي يعتمد عليها الحراك في المحافظات الجنوبية، أما الهدف المحرك 'للقاعدة' فهو تشكيل دويلة إسلاموية في المحافظات الجنوبية تابعة للتنظيم، وهذه الدويلة لها ابعاد غيبية حيث تؤكد الأحاديث النبوية أنه سيخرج من عدن أبين اثنا عشر ألفاً ينصرون الله ورسوله هم أخيار هذه الأمة، وسبق للتكفيريين أن كونوا تنظيما باسم 'جيش عدن أبين' في فترات سابقة ويؤكد البعض أن البنية التنظيمية لهذا المكون مازالت قائمة وتوسعت بشكل سري في المراحل السابقة وأن المرحلة القادمة هي الفرصة المتاحة لتحقيق الأهداف بعد إن يلتحم 'بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب'.
والحركة الانفصالية تلقت نصائح وبدعم خارجي من محاور متطرفة أن عليها أن تلتحم بالإرهاب الإسلامي حتى تتمكن من مواجهة صنعاء والهدف الخفي هو تمكين الحركة 'الحوثية' من فرض وجودها والتي طالب الناطق باسمها الرئيس صالح بالتخلي عن الجنوب وتركه لأهله، بل أن بعض القيادات الجنوبية القريبة من فكر وإستراتيجية الحوثي هي من القوى النشطة والفاعلة في الوسط الانفصالي وكان لها دور قوي في الاجتماع الذي نظمه طارق الفضلي في أبين في 27 نيسان (أبريل) الماضي.
وترى بعض القوى الانفصالية أن نشوء دويلة 'حوثية' سوف يقوي الحركة الانفصالية لأن المحافظات الشمالية ستدخل في صراع سياسي ومذهبي وهذا سيشتت طاقة الدولة. أما أنصار دويلة 'عدن أبين' فترى أن التطورات سوف تخدم أهدافها وربما ستدفع بعض القوى في المحافظات السنية الشمالية للالتحاق بالدولة الإسلاموية في الجنوب ومساندتها في صراعها.
من جهة أخرى فأن تشكل دويلة تابعة 'للحوثية' في الشمال ودويلة إرهابية في الجنوب سوف يمثل قوة ضغط على الخليج ويسهل للقاعدة تنفيذ أهدافها في إشغال المنظومة الإقليمية والدولية، وكل ذلك تلقائيا سوف يمكن إيران من فرض مصالحها على الجميع وربما السعي لفرض هيمنتها بعد أن يتحول اليمن إلى مدخل لإضعاف العرب وإشغال العالم.
المشكلة أن القضاء على الثلاثي المدمر لن يكون إلا بتدعيم قوة الدولة، ويمثل إعادة بناء شراكة ديمقراطية حقيقية أولوية في المرحلة القادمة لتحقيق الهدف، وتمثل الصراعات الداخلية بين المعارضة والحكم وفي بنية السلطة نفسها من الإشكاليات الكبرى التي تبدو غير قابلة للتفكيك إلا باعتماد التغيير الجذري في الإصلاح، فالتيار الديني بوجهه المعارض يمارس ضغوطا قوية على النخبة الحاكمة ويرى في القوى النابذة مدخل لإضعافها المرتبطة، أما الحزب الاشتراكي فإن تجربته التاريخية وعدم قدرته على التجدد والتصاقه بالمسألة الجنوبية جعلته فاقدا للسيطرة على نفسه ويبدو مشروعه الحضاري هشا وضعيفا أمام التطورات الراهنة.
أما قوى المصالح الفاسدة وغير الظاهرة للعيان فإنها تقاتل من داخل الدولة ومن خارجها وتعمل بفاعلية وقوة وبعضها يظهر ولاءها للرئيس وتوسع من تحالفاتها وتقود معاركها بلغة عنيفة من أجل تقوية الدولة بهدف الهيمنة عليها وترسيخ مصالحها بمعزل عن الآخرين، خصوصا القوى الحديثة الوطنية في بنية السلطة وفي المعارضة والمناضلة من أجل بناء الدولة القوية، وطريقة هذه القوى في إدارة الصراع يخيف أغلب القوى في الساحة مما يدفع البعض لممارسة السياسة وفق آليات متناقضة داعمة لقوة الحركات النابذة للدولة خصوصا الحوثية والحراك الجنوبي.
الخيار الوحيد أمام اليمنيين لتأمين مستقبلهم هو الحوار تحت سقف الوحدة والعمل على بناء دولة مدنية حديثة وفق معايير واضحة، على أن تأخذ بنظام الحكم المحلي كامل الصلاحيات. والواقع اليمني يؤكد أن النظام الرئاسي الكامل وسلطة تشريعية بغرفتين خيار مهم وأكثر جدوى من النظام البرلماني، ولا يمنع الأمر في بداية التحول أن تظل المؤسسة العسكرية مرتبطة بالمؤسسة الرئاسية على شرط أن تتحول إلى مؤسسة محترفة وضامنة للدستور وقوة بيد المؤسسة الرئاسية لا بيد قوى قبلية مناهضة لبناء الدولة المدنية، وسيكون مذهلا لو تم نقل عاصمة اليمن الجديد إلى عدن أو المكلا.
ونشير هنا أن حل المشاكل المختلفة يتطلب في ظل التناقضات والخوف والقلق وانعدام الثقة بين القوى المختلفة وجود وساطة إقليمية مشرفة على الحوار، وقادرة على تدعيم أي اتفاقية وأيضا مد يد العون لليمن لمواجهة مشكلته الاقتصادية باعتبارها الجذر المنتج لأغلب المشاكل، ورغم أهمية الوساطة العربية إلا أن اغلب الفاعلين ضد أي تدخل خارجي ولا يجرؤ الفاعلون طرح الخيار علنا خوفا من توظيفها في الصراع.
والملاحظ أن الجمود في التحالفات وعجز المجتمع عن إفراز قوى جديدة أصبح من المخاطر المحدقة باليمن، لذا فإن تطوير فاعلية الأحزاب وإعادة بنائها وتغيير تركيبة التحالفات الحالية ضرورة في المرحلة القادمة لتفكيك الخصومات ولتجاوز الخوف والأسوار التي خلقتها الصراعات. كما أن الأحزاب الحالية لا تعبر عن واقع الصراع وتشكل بناءات فوقية معزولة عن واقعها ومن خلالها تدير مصالح القوى المختلفة صراعاتها.
نقلا عن القدس العربي