بقلم/ د. عبد العزيز المقالح
كثيرة هي الهموم التي يعاني منها المواطن اليمني، وبعضها مما يحتمل التأجيل، وبعضها الآخر لا يحتمل ذلك، ومن تلك الهموم التي تستدعي حلاً عاجلاً توفير رغيف الخبز وهو ما يؤرق الملايين ويصرف الغالبية العظمى عن كل ما يدور من خلافات واختلافات، فالرغيف كالماء والهواء أساس الحياة والعمود الفقري لبقاء الناس على قيد الحياة. وللسياسيين - من كل الاتجاهات - أن يختلفوا كيفما شاءوا وأن يتحاوروا إلى أن ترتفع أصواتهم حداً يتجاوز عنان السماء، ولكن الواجب الوطني يقتضي منهم جميعاً أن لا يتناسوا المشكلات الأساسية في البلاد وأن يتذكروا أن اليمن واحدة من أربعة بلدان هي الأفقر في العالم.
وقد يكون من أهم أسباب بقائها في هذا المستوى من القائمة الهابطة رصيد الخلافات المتراكم في النفوس وعشق المثقفين من أبنائها للعمل السياسي أكثر من عشقهم للوطن.
وتدوي في وجداني وضميري صرخة "الأرض يا سلمى" تلك التي كانت عنوان المجموعة القصصية الأولى للمبدع الشهيد محمد عبدالولي، وهي الصرخة التي كان يطلقها المهاجرون اليمنيون قبل أن يغادروا قُرَاهم في طريقهم إلى غربة طويلة مع المجهول، وهي وصيتهم لزوجاتهم وأولادهم بأن الأرض هي الرغيف ووسيلة البقاء.
كل الأوبئة، وكل أنظمة الحكم الظالمة محلية كانت أو أجنبية يمكن مقاومتها والانتصار عليها، إلا أن شبح المجاعات، وهو الشبح المخيف الذي ظل يهدد هذه البلاد وما يزال، هو الأخطر والأكثر فتكاً وتحدياً.
وفي غمرة حمى الخلافات السياسية الراهنة ينبغي أن يتذكر المختلفون هذه الحقيقة وأن يضعوها في أجندة خلافاتهم المزمنة وأن يعلموا أن الأراضي الخصبة القليلة في هذا الوطن بدأت تتآكل على مرأى ومسمع من الجميع وبدأت الوديان تتحول إلى مدن من الطوب والاسمنت، وإلى إقطاعات لمشاريع وهمية، ولولا أكياس القمح والدقيق المستوردين لكان غالبية سكان هذه البلاد قد انقرضوا.
من الأراضي الزراعية الخصبة المعرضة للتآكل قاع جهران الذي يتعرض للعدوان، إما بزراعة القات أو بتحويل أجزاء منه لمشاريع يمكن أن تقام في أي مكان من الأراضي الجبلية أو الجدباء، ولا تستدعي أن تحتل قلب الوادي الأخضر، وقد أسعدني وأسعد الملايين في المنطقة ما قام به الدكتور علي محمد مجور رئيس مجلس الوزراء في أثناء زيارته لمحافظة ذمار ومشاركته الدورة الأخيرة للمجالس المحلية عندما حسم وبقوة النزاع الذي طال بشأن هذا الموضوع وأصدر قراره النافذ بأن يتم نقل مشروع الطاقة الغازية إلى مكان آخر، وهو موقف يستحق التقدير بعد أن كانت الأيدي العابثة قد أطبقت على الأرض وفتحت الباب واسعاً لتقطيع الوادي والتهام أجزائه وتحويله إلى مشاريع للطوب وللمنشآت الخيالية التي أفلحت في تجريف الأرض وتعريض حياة المواطنين للهلاك. ولا أحد يسأل بعد كل هذا العبث بالأرض الصالحة للزراعة: من يضمن لنا في الظروف السياسية الكونية المتقلبة وفي أزمنة الحروب المتصاعدة استمرار وصول أكياس القمح والدقيق وتوفر العملة لشرائها؟
إن من حق السياسيين في اليمن وغيرها من بلدان العالم أن يختلفوا وأن يتناطحوا إلى أن تنكسر قرونهم، ولكن من حق المواطنين الطيبين البسطاء أن لا يأتي عليهم يوم لا يجدون فيه رغيف الخبز ولا علبة الدواء وكأس الماء النظيف.
ومن هنا فلا ينبغي أن تُنسينا المنازعات الراهنة مشكلة الغذاء والاستفادة من النهج الحكيم لبعض الأقطار العربية التي تنازلت للقطاع الخاص عن كل شيء إلا رغيف الخبز فقد جعلته تحت الإشراف المباشر للدولة، وجعلت كل المخابز حكومية لتتمكن من إيصال الرغيف إلى المواطن، بثمن معقول وبمستوى مقبول، وإذا لم تفعل الدول ذلك فما أهمية وجودها، وما دور الحكومات وما قيمة الوزراء، ولماذا الأحزاب والمنظمات التي تسمي نفسها جماهيرية وخطاها جميعاً خارج معاناة المواطن وبعيداً عن همومه اليومية؟!
* تأملات شعرية:
قلت لأولادي:
أوصيكم بالأرض
وأوصيكم بفراشات الحقل
وأوصي أبناء بلادي البسطاء.
قلت لهم:
الأمن هنا، والخير هنا
فوق تضاريس الأرض الحبلى
لا أرزّ الشرق ولا قمح الغرب
يقينا هول الجوع
ويحمينا من ذل الاستجداء!.<