د. محمد السعيد عبد المؤمن
لم تحسم نتيجة الانتخابات الصراع الذي فجرته المنافسة على رئاسة الجمهورية الإسلامية في إيران، بل بدأت الأحزاب والتكتلات سواء الأصولية أو الإصلاحية، والقيادات والنخبة، من سياسيين ومثقفين، في إعادة النظر في الموقف برمته، وطبيعة المواقف التي اتخذتها، والآليات التي استخدمتها، والنتائج التي حصلت عليها.
ورغم بدء الاحتجاجات والمظاهرات والصدام وامتداده إلى الشارع والجامعات في طهران وأصفهان، إلا أن من الواضح أنه صراع بين النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية يقوده اختلاف الرؤى حول حركة النظام خلال المرحلة القادمة.
الائتلاف الإصلاحي والثورة المخملية
ويبدو أن التحول الذي ينشده أصحاب حركة الائتلاف الإصلاحي هو تحول بولاية الفقيه نحو الليبرالية، بمعنى أن يصبح شعار النظام هو (الجمهورية) ثم (الإسلامية) وليس العكس (الإسلامية) ثم (الجمهورية) الذي يرفعه الأصوليون في إدارتهم الحالية التي يؤيدها الزعيم خامنئي، وهو ما يشير إلى أن الصراع سيمتد طوال فترة السنوات الأربع القادمة، ويتخلله صراع حول السلطة التشريعية عند انتخابات مجلس الشورى الإسلامي والمجالس المحلية، ثم الزعامة. ومن دلائل ذلك إعلان مير حسين موسوي استمراره في التحدي والتمرد لدرأ أعمال الانتقام، والاستعداد للانتخابات القادمة، وإثبات قدرة الإصلاحيين على التصدي للأصوليين، وأنه قد أصبحت لهم مخالب.
وبانضمام آية الله حسين علي منتظري نائب الزعيم الراحل آية الله الخميني المحددة إقامته، وأحد معتزلي الساحة السياسية اعتراضا على ممارسات الولي الفقيه آية الله خامنئي، بانضمامه إلى ائتلاف الإصلاحيين المعارضين الذي يضم هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس خبراء الزعامة ورئيس مجمع تحديد مصلحة النظام، والسيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية السابق، فضلا عن موسوي رئيس الوزراء السابق ومرشح الإصلاحيين المعترض على نتيجة انتخابات الرئاسة، وعدد من كبار علماء الدين من داخل مجلس خبراء الزعامة ومجمع تحديد مصلحة النظام، ومن الحوزة العلمية في قم المطالبين بالتغيير وتعديل مسار النظام وتغيير رئيس الجمهورية وتوسيع صلاحياته، وتطوير مؤسسات الدولة نحو مزيد من الليبرالية... اتسعت حركتهم بحيث أصبحت تبدو في شكل ثورة مخملية أو محاولة انقلاب من داخل النظام للإطاحة بالأصوليين، سواء من رئاسة الجمهورية أو السلطة التشريعية وربما زعامة النظام.
وأصبح من الواضح مع هذه الحركة أن ثمة اتجاها قويا نحو تعديل نظام ولاية الفقيه وتحديد صلاحيات الزعيم، من خلال إثبات دكتاتورية الزعيم ومحاباته لمرشح رئاسي دون مرشح، وسكوته على تزوير الانتخابات.
لقد كان الزعيم خامنئي راغبا في إعطاء الفرصة لأحمدي نجاد لتولي الرئاسة فترة ثانية، باعتباره الشخص المناسب للمرحلة القادمة، حيث قام بجولة في بعض المحافظات دعا خلالها إلى ضرورة اختيار مرشح تتجسد فيه صفات الإيمان بالثورة والنظام والشفافية والبساطة والتعامل مع معاناة المحرومين، وهي صفات يتمتع بها أحمدي نجاد، كما أن المقربين منه لم يتوقفوا عن دعم نجاد، إزاء ارتباك موقف كبار علماء الدين الأصوليين الغامض تجاه المرشحين، وعدم اقتناع النخبة بإعطاء الرئيس فترة ثانية، لوجود انتقادات كثيرة حول مواقفه وسياساته، واستقلاليته الجامحة، وثوريته اللامحدودة، والتي تؤثر سلبا على استقرار حكومة رشيدة وخبيرة.
وهناك أدلة كثيرة على هذا عبر عنها المرشحون والقيادات، (تصريحات رفسنجاني، خاتمي، مير حسين موسوي، فاطمة رجبي، ومهدي كروبي الذي انضم للاتفاق بعد هزيمته، وغيرهم)، فضلا عن ظواهر واضحة على الساحة السياسية، تشير إلى حقيقة نوايا الائتلاف الإصلاحي، لقد كانت حجة الائتلاف لإزاحة الأصوليين الإعلان عن قلقه على مستقبل البلاد.
الاقتصاد وصراع النفوذ يهز الجمهورية
وأسباب قلق الإصلاحيين تتلخص في: تبديد الإدارة فرصا اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي، والبطالة والتضخم، وتفشي الأمراض الاجتماعية وخاصة إدمان المخدرات، وافتقاد الأمان الاجتماعي مع افتقاد الأخلاق، وازدياد حالات الإجرام وحوادث الطرق، فضلاً عن تولي الحكومة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإثارة قضايا طائفية وعرقية ومذهبية، وهو تجسيم لفشل الأصوليين في إدارة الدولة.
أظهر هاشمي رفسنجاني عداءه بوضوح فيما أورده في رسالته للزعيم خامنئي قبل التصويت، واتهم فيها أحمدي نجاد بالكذب وتجريح قيادات النظام والزعيم الراحل والزعيم الحالي، مشبهاً سلوكه بسلوك الرئيس الأسبق أبو الحسن بني صدر الذي قام الزعيم الراحل بإقالته، كما اتهمه بتبديد مليار دولار ومخالفات كثيرة للميزانية وتجاهل الرؤية العشرينية لمستقبل النظام، وهو ما يخدش نزاهة وشفافية أحمدي نجاد، كما أكد رفسنجاني للزعيم خامنئي أن استمرار الوضع الموجود ليس في مصلحة النظام والبلاد، مطالبا النظام بمواجهة هذه الظاهرة القبيحة الآثمة؛ فإذا كان النظام لا يستطيع أو لا يريد تحقيق ذلك، فكيف يمكن أن يعتبر من أتباع النظام الإسلامي المقدس!، محرضاً الزعيم على اتخاذ إجراء ضد مروجي الفتنة، وأعداء الوحدة الوطنية، حتى لا يزيد اشتعال النار.
وقد أكد أحمدي نجاد بأن مؤامرة حيكت ضده من قبل رفسنجاني وخاتمي مع موسوي، مصرحاً بأن "الحكومات الثلاث السابقة تقف في مواجهته، في حين كانوا يدافعون عن بعضهم البعض، وهدفهم هو ضرب حكومته". واستنكر هذه الهجمة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الثورة والنظام من أجل تخريب حكومة وطنية، وأنه خلال سنوات حكمه الأربع تحمل الإهانة، ولكنه لا يتحمل أو يسامح في إهانة عقول الناس ومشاعرهم، وقد حثته الجماهير في لقاءاته معها على الدفاع عن حقوقها ومواقفها.
لهذا يرى نجاد لزاما عليه اقتلاع جذور الفساد، وأن سبب الضغوط التي تُمارس عليه هو أن النظام الإداري خلال العهود السابقة ابتعد عن قيم الثورة؛ فكانوا يحاربون الحكومة حتى تسقط ويتوقف التصحيح، مؤكدا أن رفسنجاني أكد لملك السعودية أن الحكومة ستسقط، كما نشر 320 عنوانا من الإهانة للحكومة. ووصف أحمدي نجاد رفسنجاني بأنه يهرب إلى الأمام، وانتقد اتهام موسوي الحكومة بأن شعاراتها غير قابلة للتطبيق لأن فيها جوانب أسطورية وخيالية ولا تقوم على قاعدة علمية، بل تقوم على سلوك مسرحي بعيد عن القوانين وسطحي ويخفي الحقائق.
ورغم أن القضية الاقتصادية كانت على رأس القضايا التي رفعها المتنافسون، لأن انتصار أحمدي نجاد سوف يدعم الاتجاه الشعبي الثوري الذي أرساه في فترة رئاسته الأولى، وقبول الجماهير لمشروعه الاقتصادي وسياساته وآلياته، إلا أنها كانت في ذات الوقت المدخل نحو إثبات التوجه الخاطىء لنظام ولاية الفقيه وابتعاده عن الرؤية العشرينية للنظام.
وإذا كان أحمدي نجاد قد بدأ بتوزيع سهام العدالة وطرح الدعم النقدي بدلا من العيني، ووضع لوائح جديدة للتوزيع والضرائب والجمارك والبنوك، وهو ما سهل مهمته، وجعل تأثير الأزمة العالمية سلبيا تقريبا؛ فمن الواضح من خطاب الانتصار الذي ألقاه أحمدي نجاد بعد فوزه أنه سيستمر في تنفيذ رؤيته الاقتصادية. يقول أحمدي نجاد: "لقد أكدت الجماهير أنها مصممة على بناء البلاد وتقدم إيران في كل المجالات العلمية والصناعية والثقافية والاقتصادية، وتأمين احتياجات الشباب ورقيهم.. إن برنامجي هو الخدمة والبناء أولا، وحل المشاكل الاقتصادية والغلاء والإسكان وتوفير فرص العمل ثانيا، وتحقيق العدالة والمساواة أمام القانون ثالثا. وأنا أتعهد ألا أقبل توصية من أصحاب النفوذ والثروة في تعيين المعاونين".
وبالنسبة للسياسة الخارجية يقول: "نحن أهل منطق وأهل حوار على أساس الاحترام والعدالة".
وفي رده على شكوى منافسيه يقول: إن مجلس الرقابة على القوانين لم يتلق شكوى واحدة خلال العملية الانتخابية، فلماذا الشكوى بعد ظهور النتيجة؟! لقد كانت الدعاية ثلاثة مقابل واحد، ولم أعترض على هذا الوضع، وصبرت، وقلت في التليفزيون لا مشكلة أن تتحركوا هكذا حتى لا تكون لكم حجة".
وهذا يعني أن أحمدي نجاد سيضرب بيد من حديد وبدعم من الزعيم على من أسماهم بالمفسدين دون تفرقة بين مكانتهم الاجتماعية، ويسلم ملفات كبار رجال الدولة للسلطة القضائية. كما سيستمر نجاد في سياسة التقرب من الجماهير دعما لنظام ولاية الفقيه، مستغلا شعار القيادة الشعبية الدينية الذي كان قد طرحه الإصلاحيون من قبل، بما يعني استباق النظام نحو التطوير دون حاجة لهذه الحركة الإصلاحية وائتلافها المثير للفوضى، تطويرا يتناسب مع الفكر الجديد للاقتصاد الشعبي، وتعديل اللوائح، وتفعيل الوحدات الإنتاجية والاقتصادية، وزيادة الاهتمام بالمناطق المحرومة، ودعم الجامعات والتحول في المحتوى والبرامج التعليمية، للمساعدة على أن يكون التخطيط من أجل التطبيق وفق احتياجات البلاد، وزيادة المشاركة الجماهيرية. فضلا عن تغيير الخطاب السياسي للنظام.
خامنئي يدافع عن زعامته وعن الثورة
ومما سبق، يجوز القول إن هناك عدة عوامل سيكون لها تأثير مباشر على مستقبل ولاية الفقيه في المرحلة القادمة، أهمها قدرة الزعيم خامنئي على التغيير العقلاني الذي يبطل حجة خصومه، وثانيها ولاء حراس الثورة الإسلامية للقيادة الحالية وأدواتها ومؤسساتها، وثالثها موقف الجماهير من حركة ائتلاف التغيير، ومدى استجابتها لأهداف هذه الحركة، ومدى اقتناعها بعمل القيادات الحالية للنظام.
ولعل العامل الثالث يبدو الأكثر أهمية، وهنا يلاحظ أن الائتلاف الإصلاحي لا تدعمه الأقليات العرقية والقومية والدينية التي أعطت غالبية أصواتها لأحمدي نجاد، ولم تعطها لخصومه من الإصلاحيين، ولا حتى في مسقط رؤوسهم، رغم أن هذه الأقليات قد أعطت أصواتها في الانتخابات السابقة لمهدي كروبي ثم لهاشمي رفسنجاني، فربما يشير هذا إلى تأييدها الزعيم الذي وجههم خلال جولة في المحافظات النائية التي تسكنها الأقليات، وخاصة كردستان، ملمحاً إلى تأييده أحمدي نجاد في تحقيقه لمطالب الأقليات، وشعاره بأن إيران ليست شمال طهران فقط.
من جانب آخر لم يكن للتأثير المباشر للعلاقات الخارجية على حركة الاعتراض دورا كبيراً، إذ لا وجود لضغوط خارجية حقيقية على النظام؛ فالموقف الأمريكي والغربي لم يراهن على أحد من المرشحين، ويفضل التعامل مع إيران من خلال زعيم النظام آية الله خامنئي، وإن كان الغرب أخذ يحذر من قمع المظاهرات ومن الاعتقالات ويطالب بمنح حرية الاعتراض.
إن قراءة سريعة في خطبة الجمعة الماضية (19 يونيو الجاري) التي ألقاها الزعيم خامنئي تؤكد إدراكه أن القضية ليست قضية اختلاف على نتيجة انتخابات الرئاسة، ولكنه نوع من التمرد على نظام ولاية الفقيه، وحركة من أجل تعديله، ورغم أنه سعى لمعالجة قضية الصراع بحنكة، من خلال تفكيك الائتلاف الإصلاحي بتحييد رفسنجاني، فانتقد طرح قضايا الفساد ضد رفسنجاني وأسرته عبر وسائل الإعلام، مؤكدا معالجتها عبر المؤسسات القانونية، ودافع عن رفسنجاني مشيدا بخدماته وتضحياته وإنفاقه من أجل الثورة والنظام منذ الكفاح ضد الشاه وحتى الآن.
ووصف الزعيم الخلاف مع رفسنجاني في وجهات النظر حول مواضع متعددة بأنه طبيعي، وأن الخلاف بينهما حول السياسة الخارجية يعود لعام 2005، كما رأى أن الخلاف حتى في طريقة تحقيق العدالة الاجتماعية وبعض القضايا الثقافية طبيعي أيضا، وأن آراء رئيس الجمهورية أقرب إلى رأي الزعيم. وأشار إلى أنه "لو لم يكن هناك فساد ما أرسل منشورا من ثمانية بنود لرؤساء السلطات الثلاث، ورغم ذلك فإن الجمهورية الإسلامية من أكثر النظم شفافية في العالم".
وفي محاولة لتهدئة الصراع أكد أن المرشحين الأربعة من عناصر النظام ومحسوبون عليه؛ فوصف أحدهم بأنه رئيس جمهورية خدوم وفعال ومكافح وموضع ثقة، والثاني أنه كان رئيسا لوزراء حكومته ثماني سنوات عندما كان (أي خامنئي) رئيسا للجمهورية، والثالث أنه كان قائد جيش الحراس ومن قواد الدفاع المقدس في الحرب العراقية، والرابع أنه كان رئيسا للسلطة التشريعية لدورتين.
وأكد خامنئي أن المنافسة داخل النظام، وأن هذه المنافسة بما صاحبها من مناظرات واختلاف في الرأي، جعلت عدد الناخبين يزيد عشرة ملايين عن الانتخابات السابقة، مشيراً إلى أن اشتراك حوالي 40 مليون ناخب في انتخابات الرئاسة يمثل بيعة له ولنظام ولاية الفقيه، لأنه يجسد روح المشاركة الجماهيرية وإحساس الجماهير بالمسئولية تجاه حماية النظام ضد أعدائه، واستمرار التزام الجيل الثالث للثورة بكل فئاته العمرية والجنسية والقومية والمذهبية، وهو ما يجسد الإحساس بالحرية والأمل والانتعاش.
وألقى الزعيم باللائمة على أعداء النظام، وأنه لن يسير خلف البدع غير القانونية، لأنه إذا كسر الإطار القانوني اليوم لن يحفل الناس بالانتخابات في المستقبل، ولن تكون لها مصداقيتها. ثم هدد بأن إثارة التوتر في الشارع يوقع مبدأ الانتخابات والقيادة الشعبية في ورطة، وطلب من الجميع إنهاء هذا السلوك الخاطيء، فإن لم ينتهوا فستقع مسئولية تبعات الفوضى على عاتقهم، مؤكدا أن تحريك الشارع لن يؤدي إلى ضغط ضد النظام، بل سيحرض المسئولين على ممارسة نوع من الدكتاتورية تحت شعار المصلحة، لكن طريق القانون والمحبة مفتوح؛ فإذا أراد البعض طريقا آخر، سوف يتحدث مع الناس حديثا أكثر صراحة، وعند الضرورة سوف يعرف المفسدين للناس.
وختم الخطبة بالتذكير بحكومة (إمام الزمان)، قائلا: "يا سيدي ومولاي لقد فعلنا ما كان واجبا، وقلنا ما ينبغي أن يقال، لقد وضعنا أرواحنا الضعيفة وكرامتنا على أكفنا في سبيل فداء الثورة والإسلام، وسوف نستمر على ذلك بكل قوة، فتولنا بدعائك وأنت الصاحب الحقيقي لهذه الثورة وهذه البلاد".<
أستاذ الدراسات الإيرانية بجامعة عين شمس- القاهرة