عصام العريان
شدّت إيران أنظار العالم أجمع خلال الأسبوعين الماضيين، وكان السؤال الأبرز هو إلى أين تتجه إيران؟ وراود المراقبين إحساس غريب: هل تتكرر أحداث الثورة الإيرانية؟ وهل تكون تلك التظاهرات المحجوبة بداية ثورة مخملية تعيد ترتيب الأوراق في إيران؟
وشغل المختصين في الشأن الإيراني والشأن الشيعي سؤال ما وراء الأحداث، وهل تحدِث التظاهرات والاختلافات داخل أبناء البيت الواحد وأولاد الثورة الإسلامية مراجعة كبيرة تحوّل الولاية السياسية من المرشد الأعلى، وليّ الفقيه، إلى ولاية الأمة الإيرانية والجماهير الشيعية؟
إذا أردنا أن ندرك أهمية ذلك السؤال فعلينا العودة إلى الوراء لنفهم طبيعة المذهب الشيعي، ولماذا حدث الخلاف والانقسام في الأمة الإسلامية بين سنّة وشيعة. حدث الانقسام في البداية، سياسياً حول مَن الأحق بتولي الخلافة بعد الرسول. ورأت أقلية أن الأولى هو علي بن أبي طالب، بينما اختارت الغالبية الساحقة أبا بكر الصديق خليفة للرسول، وبايعته جموع الصحابة بيعة السقيفة.
بعدها بدأ التأصيل للخلاف، حيث لم يدّع أحد في بداية الخلاف وجود نظرية متكاملة للإمامة، فتم وضع أسس فقهية وأصولية لنظرية الإمامة عند الشيعة بعد معارك الإمام علي في الجمل وصفين وتصاعد الأحداث التاريخية في الخلاف المشهور مع معاوية، ثم تحول الخلافة إلى ملك عضوض ووراثة ملكية في الدولة الأموية.
جوهر نظرية الإمامة عند الشيعة جميعاً هو أن من يتولى أمر المسلمين وحكمهم، لا بد أن يكون بنصّ إلهي وليس باختيار حر من الأمة، لخطورة الأمر. ولذلك جاءت النصوص التي يتم تأويلها بتعسف شديد ولا تعترف بها الغالبية العظمى من المسلمين لتؤكد تلك النظرية. ثم اختلف الشيعة في ما بينهم، ولكن اشتهرت نظرية الإمامية الاثني عشرية التي حصرت الأئمة في آل البيت من ولد الحسين بن علي، لعدد 12 إماماً، كان آخرهم هو محمد بن الحسن العسكري الذي عند وفاته، قال الشيعة بغيبته غيبة صغرى ثم غيبة كبرى طالت حتى يومنا هذا.
ويشعر الزائر اليوم لإيران نفسها، أو لمناطق الشيعة في بلاد أهل السنة، بغياب المظاهر الإسلامية التعبدية المشهورة، بينما كان المظهر الأبرز للصحوة الإسلامية في البلاد الإسلامية انتشار المساجد والإقبال على الصلاة في المسجد وانتشار الحجاب بين النساء والفتيات، وكثرة حفظ القرآن، والإقبال على العلم الشرعي بمنهجية علمية أو بجهود فردية، والمطالبة المستمرة بالعودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة، والمحاولات المستمرة لإحياء التطبيقات الإسلامية في الاقتصاد والسياسة والإعلام والفن. . .
كان المظهر الأكبر للصحوة الإسلامية فى إيران سياسياً، تمثل في الثورة الشعبية التي قادها الإمام الخميني منذ 30 سنة. ثورة سياسية قلعت عرش الطاووس وأنهت حكم الشاه محمد رضا بهلوي الذي تلقّب بملك الملوك، وأنهت معه عصر التشيّع الصفوي الذي مارس معادلة سياسية دينية مع المراجع الكبرى طوال قرون، كما سمّاه ووصفه المفكر الإيراني الكبير علي شريعتي. وعندما انتشرت خارج إيران فشلت في تصدير أفكارها إلى أهل السنّة بينما نجحت في رص صفوف الشيعة في عمل سياسي بارز في لبنان والعراق والبحرين واليمن. . .
ويحاول الزائر إلى إيران أن يجد الملامح التي تعوّدها من الصحوة الإسلامية، فلا يجد مساجد للشيعة ولا للسنّة، ولا يسمع الأذان في مواقيته الخمسة، ولا يجد الحجاب الذي تعوّد عليه، بل يجد زيّاً مفروضاً على النساء بقوة القانون، ويجد التدخين سائداً ومنتشراً بين الملالي جميعاً تقريباً. ويفرّغ الشيعة البسطاء أشواقهم الدينية عند المزارات وقبور الأئمة والاحتفالات الحاشدة. حتى صلاة الجمعة فى طهران تحولت إلى تظاهرة سياسية، ولا أنسى يوم كنت في ندوة بطهران ورفضت حضور صلاة الجمعة لأني مسافر، وذهب بقية الوفد ومعهم السيد أمين هويدي الذي عاد ليقول لي: لقد كان رأيك صائباً، فلم تكن صلاة حاشدة ولكنها تظاهرة سياسية.
كانت النقلة الكبيرة التي أحدثها الإمام الخميني هي نظرية جديدة للإمامة أو «الحكومة الإسلامية» كما سماها في كتابه الأشهر الذي حمل نفس العنوان. خلاصة ما وصل إليه الخميني أن الشيعة ليسوا في حاجة إلى انتظار عودة الإمام الغائب ليقودهم في دولة إسلامية، بل يمكن أن يتولى أحد المراجع الكبرى الولاية السياسية مع الولاية الدينية، فيتولى حكم المسلمين ويطبق فيهم حكم الإسلام. جوهر الفكرة أن المذهب عند تأصيله جعل التقليد في الأحكام حكراً على الأئمة من آل البيت، ولكن عند المظلومية ظهرت الحاجة إلى وكلاء للأئمة، انتقل التقليد إليهم. وعند الغيبة الكبرى بقيت هذه الولاية الدينية يتوارثها العلماء الذين تم تأسيس نظام محكم لترَقّيهم، وعلى كل مسلم شيعي أن يتخذ أحد هؤلاء المراجع الكبار مرجعاً للتقليد ويدفع إليه زكاة ماله التي تبلغ «الخُمس»، ولا يجوز لعموم الأفراد التفقّه في الدين منفردين، ولا يجوز من باب أولى إلا تقليد من تُجزه الحوزات العلمية في تسلسل معروف ومشهور يبدأ بطالب العلم ثم حجة الإسلام وينتهى ب«آية الله العظمى». وكانت حجة الخميني الأساسية أنه إذا كنا اتبعنا وكلاء عن الإمام الغائب في أمور ديننا، فكيف نتخلف عن أتباعه وتقليده في أمور الدنيا والسياسة؟ وبذلك أسس لتطور جديد وخطير في المذهب الشيعي الاثني عشري.
لم تكن تلك النظرية لتصمد طويلاً أمام التجربة، ولا بد لها أن تتطور وتتغير للأسباب الآتية:
1 الأول هو ضعف السند الفقهي، فإذا كان الملالي حجة في أمور الفقه والشريعة بسبب تخصصهم الطويل وتدرجهم فى المناهج العلمية التي قد تصل إلى 30 سنة في الحوزات، فإنهم ليسوا المتخصصين في كل المجالات الحياتية التى تحتاجها أمور السياسة.
2 الثاني هو المعارضة الأصلية لنظرية «ولاية الفقيه»، فلم يوافق الخميني عليها كبار الفقهاء من آيات الله العظمى، مثل الخوئي والسيستاني والكلبايكاني» وبروجردي الذين حرصوا على تمييز «دولة العلم» عن «دولة الدنيا» وحرصوا على شغل الفقهاء بالأولى فقط، حيث نجح العلماء في الحفاظ على استقلاليتهم طوال قرون.
3 الثالث هو الممارسة العملية. فقد تنافس آيات الله على المناصب السياسية وفي الصراع السياسي الحالي المحتدم طالت الاتهامات رؤساء كباراً، وقد لا تتوقف عند رفسنجاني وكروبي ورضا نوري، بل قد تصل إلى «الولي الفقيه خامنئي» نفسه إذا فشل في احتواء الصراع الحالي وهو ليس من الآيات العظمى.
4 الرابع هو صحوة الشعب الذي يجد لنفسه اليوم مكاناً في الصراع الدائر لأنه صراع سياسي يمسّ أمور حياتهم العادية، ولهم فيه رأي وحجة، بينما كان الآيات والملالي مراجعهم في التقليد الديني الذي لا يتخصصون فيه ولا حجة لهم فيه ولا قدرة لهم عليه.
5 الخامس هو الضغوط العالمية ودور الدول المجاورة، فقد عاش الشيعة لقرون طويلة في عزلة عن العالم، وها هم اليوم في قلب الصراعات الإقليمية والعالمية، يؤثرون ويتأثرون، وهذا لم يرد فى كتب الأقدمين منهم، ويحتاج إلى اجتهاد جديد جماعي لا ينفرد به الفقهاء فقط، وهو ما لا تتعود عليه الحوزات العلمية، فضلاً عن دور الإعلام الخطير الذى نقل الاهتمامات العامة إلى رجل الشارع العادي، وخاصة الشباب والنساء.
السؤال اليوم هو: إلى أين تتجه إيران؟ وهل تتطور نظرية «ولاية الفقيه» إلى نظرية جديدة هي «ولاية الأمة»؟ وهل يدرك الشيعة أن غيبة الإمام التي طالت، قد تطول أكثر وأكثر، وأن الحاجة ملحّة للعودة إلى الأمة نفسها لتتولى أمور دنياها وتختار بحرية من يحكمها وتحاسبه على ذلك وتعزله إن أرادت؟ وهل يمكن ترجمة إجابات تلك الأسئلة فى تطوير دستوري في إيران من دون الحاجة إلى نظرية فقهية جديدة تحتاج إلى فقيه بحجم الخميني وقائد سياسي محنّك له مثل قدراته القيادية وكاريزمته الشخصية؟. <
* قيادي في جماعة الإخوان
المسلمين في مصر