فضل العفيفي
الإنسان بحكمه على أمر من الأمور تظل نظرته منقوصة او نسبية , لأنه في المقام الأول مخلوق لا يمتلك الكمال لا في عقله ولا في رؤيته للأمور, ولان كل أمر مرتبط بمتغيرات ولا يمتلك الإنسان السيطرة على مجرياتها, وهذه المتغيرات قد تخذل معايير الرؤية والقياس لديه فتتولد أمور ومظاهر ومستجدات لا تتسق مع التوقعات .
لعل القارئ قد استشف من كلامي ما قصدته وهو ان كل البشر خطائين ولا احد يمتلك الحقيقة الكاملة ولذلك يصبح الإصرار والتمسك بالرأي إلى حد ألقطيعه والتناحر عليه - يعد ذلك من باب السفه وقلة الإدراك بقيمة الحياة والاستقرار والتطور المترتب عليه, وان الحياة المدنية في زمننا هذا قد أوجدت بدائل وأدوات للصراع بسبب الاختلافات في الاعتقادات الغير معصومة بين البشر وخاصة في الوطن الواحد.
والديمقراطية التي هي حديثنا وديدننا في العقود الأخيرة ما هي إلا لعبة البيادق الشطرنجية ووسيلة سياسية تؤدي إلى غالب ومغلوب ولكن بأسلوب مدني ربما يكون مؤلماً ومحبطاً وإزاحة أشخاص وإحلال آخرين بدلهم من على كراسي السلطة ولكن دون دمار ولا سفك دماء ولا تيتيم وترميل , بمعنى آخر هي صراعات مخملية بدلا من الصراعات الدموية.
بعض الاحزاب السياسية في الغرب ظلت مغلوبة عبر صناديق الاقتراع وفي المعارضة لثلاثين واربعين سنة ولم تكل في العمل من اجل أن تصل إلى صفة الغالب عبر الصناديق ومكايدات لعبة الديمقراطية المريرة لأنه ليس لديها وسيلة أخرى لذلك ولأنها اقتنعت بحتمية وجود الغالب والمغلوب معا وبحتمية أن الغالب والمغلوب عبارة عن توأمين متلازمين ويمثلان التدافع السلمي للتحسين والتطوير في أي مجتمع ديمقراطي.
وفي بلدنا وفي مجتمعنا نطالب بالتطوير في كل شيء وان نحاكي الدول المتقدمة في كل شي إلا أن الطبع يغلب التطبع عندنا في الاوقات التي يتطلب فيها إعمال العقل لان ثقافتنا وقبولنا بالآخر والقبول بالهزيمة السياسية هي أمور لم تصل في بلدنا إلى ماوصلت إليه من نحاكي انظمتهم ومفاهيمهم وثقافتهم, لذلك فنحن نحاكي شكلاً ونعود لجذورنا مضمونا .
عندنا مجاميع متراكمة ومخضرمة وبعضها معتق من افرازات الصراعات السياسية السابقة المختلفة بعض هذه الجماعات تعودت على الوصول إلى السلطة من اقصر الطرق واعني بذلك ( موضة الخمسينيات إلى السبعينيات ) الانقلابات, والتامرات الدموية والصراعات المسلحة على السلطة اذا لم تحقق أهدافهم ديمقراطياً وطالت عليهم السنين ولم يصلوا إلى كرسي السلطة فإن صبرهم ينفذ وتنكشف حقيقة ثقافتهم ومدنيتهم الضحلة التي لم تستطع مجارات وسائل وأدوات ونظم المجتمع المدني الذي سبق وان زيّّّفوا قناعاتهم باسمها او بالاحرى غلبت عليهم شقوتهم وقناعاتهم المتجذرة.
والديمقراطية لديهم إن لم تكن وسيلتهم لتحقيق(النصر) مبتغاهم وليس سواه فإنهم يعودون إلى جذورهم.
ان الصراعات السياسية العديدة السابقة قد افرزت جيشاً من مرتادي لعبة كراسي السلطة ولا يجيدون عمل آخر سواه, بعضهم لايزال يعمل في مفاصل الدولة المختلفة لا بكفائاتهم ومؤهلاتهم ولكن لكونهم كانوا أركان يُعتمد عليها في الصراعات والاقتتال لذلك اعتبروا المناصب استحقاقات واجبه بعيدا عن معنى وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب ومن هنا نشأ الفساد وانعدم وجود العمل المؤسسي وتم الأخذ بمبدأ الولاءت بدلا من الكفائات في إسناد المناصب والوظائف والمنظور السياسي أكثر من المنظور المهني. كذلك فان هذه الصراعات قد أفرزت جيوش من ضحايا الاقتتال المتكرر بين ابناء الوطن الواحد وعلى اليمن أن يدفع ثمن جُرم الأطماع الأنانية لبعض أبنائه لأسر هؤلاء المنكوبين, وجيوش من المناضلين الذين يمنون على اليمن بنضالهم وبأنهم قد قدموا التضحية من اجله, وعلى اليمن ان تُكافئهم وباستمرار وإلا عُد ذلك نكران للجميل!! ؟. كذلك خلفت أزمنة من عدم الاستقرار ومن عدم التطور.
فالصراعات السابقه هي السبب الرئيسي في تكون الفساد وتراكم الاوزار لان الصراعات افرزت جيوش من المتصارعين التي لا يمكن إرضائها دون الوقوع في مطب الفساد, وأفرزت العديد من المشكلات الثقيله والمتشابكة التي تُعيق بعضها حل بعضها الآخر.
وما يحدث في هذه الفتره تحت مسمى الحراك في المحافظات الجنوبية والشرقية لايخرج عن كونه محاولة للوصول إلى السلطة من اقصر الطرق مع الاعتراف بوجود استياء عام خاصه بين الشباب من الاخفاقات التي حُسبت خطأ على الوحدة، لكن هؤلاء الشباب يجهلون بحكم سنهم وقلة خبرتهم أن طاقاتهم وحماسهم ومعاناتهم تستخدم وقود لصراع جديد لا يخدم بالدرجة الأولى إلا بعض من لا يجيدون إلا العمل السياسي والعسكري وتزييف قناعاتهم العاملة تعاطفا مع معاناة الشعب الذي يدفع الثمن دوما بأكوام جديدة من ارث الصراعات والاقتتال، ولو أن كل بطالة في دول العالم تطالب بالانفصال, اوان كل المتقاعدين يطالبون بالحكم الذاتي لأنهم احيلوا على التقاعد, أو لو أن الفقراء والمظلومين في كل دولة اعلنوا التمرد على دولتهم, فتصوروا كيف سيكون عليه الحال في مختلف بلدان العالم؟ فلا يوجد بلد لا توجد فيه بطالة مع تفاوت النسب ولا يوجد بلد ليس فيها متقاعدون ولا فقراء ولا مظالم ولا يوجد بلد تحكمه دوله فاضلة. ان ما قلته انفا ليس دفاعا عن تلك السلبيات ولكن لان الكمال مقصور على الخالق وعملية الإصلاح لزيادة نسبة الايجابيات مرهون بالاستقرار وبالنضال السياسي المتمدن او السلمي ولاتحل المشاكل بفتن اثرها اعظم من اثر المشاكل نفسها والا كان ذلك من باب الحمق ومن منظار المصالح الشخصية الضيقة.
العمل السياسي كحزب في الإطار الديمقراطي لن يناسب قادة الحراك لانه لن يوصلهم إلى مايريدون وسيكشف حقيقة حجمهم وتاثيرهم . ومايدعون به من اجل الجماهير التي تعاني ماهو الا اسدال لمعاناتهم ومشاكلهم الخاصة على الوطن وعلى الجميع ولايتعاملون معها كقضايا خاصة لايجوز اقحام الوطن كله فيها كمن يُحرق مدينه ليشعل سيجارته, وقضايا الوطن الوطنية الحقيقية انتهت مع فترة الستينات اما قضايا اليوم فهي قضايا جزئيه وقضايا سؤ سلوك وسؤ تصرف ولا يجب ان تُحمل اكثر من معناها, فلايوجد بيت ليس فيه خلافات فما بالك ببيت كبير، ومن يسعون إلى إثارة الفوضى والضجيج التي معها يصعُب تقدير الحجم الحقيقي لكل طرف اعتقاداً بان ذلك يبرز شعبيتهم التي قد تكون متواضعة وذلك بتحريض المشاعر على حساب إعمال العقل إنما يفعلونه هو تماما كما حدث في فترة الهتافات المؤججة للمشاعر في السبعينات. حتى الادعاء بالحراك السياسي ( السلمي ) لا أظن انه سيستمر طويلا لانه مغاير لطبيعة وثقافة القيادات والادوات معاً وسيغلب الطبع التطبع وسترون ما أقوله.
لنناضل من اجل الدفاع عن الثورة وتحقيق الوحدة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية
بالطبع يتذكرها من هتف بها الاف المرات واُرضعت للاطفال مع الحليب ووجبة الفطور الصباحية . . لماذا كانت حينها مطلب وطني تبذل من اجله الدماء والارواح ولماذا اصبح المطلب هو العكس الان؟ . اليست الوحدة هي .. هي نفسها التي قيلت حينها وتقال الآن بمعناها اللغوي والمعنوي والهيكلي ألا يظل هذا المعنى والمفهوم ثابتا بمضامينه ومعانيه مهما اختلف المختلفون وتعاقب الليل والنهار؟ اليست الوحدة بذاتها وبدون ماعلق عليها حجة على المتحدين كما هو الإسلام حجة على المسلمين؟ وليس العكس؟ ام ان المصالح والطموحات والنزاعات تجيز إعادة صياغة المفاهيم والبديهيات والعقائد.
في القضايا العامة يجب الاعتماد على رؤية العقل الذي يحكم قياسا على الأسباب والظروف والمنطق ونسبة الصواب فيه أعلى وليس على المشاعر والهوى الذي يعتمد على الغريزة وفوران المشاعر وعلى ضربة الحظ .
إنني أؤمن بان المصالح تشكل القناعات وهو أمر لايجد له الإنسان علاجاً وان المثاليات تتوارى خلف هذه القناعات وان الصراع بين المثاليات والقناعات المترتبة على المصالح غالباً ماينتهي لصالح الثانيه فمن كانت لديه المصالح تمسك بالقناعات المبررة لها ومن خسر المصالح لجأ إلى المثاليات او بعضها، والشباب يكونون أكثر قرباً من المثاليات إلى أن يخبروا الحياة فتتكشف لهم المثاليات وكأنها حياة نظرية وان الواقع والمعايشة أمر يختلف بشكل نسبي من مجتمع إلى آخر ومن إدارة إلى أخرى ومن سلوكيات إلى أخرى .
وما هو حاصل الآن لم يعد من مثاليات ووطنيات الماضي لكنه ينفذ بنفس الثقافة القديمة وبنفس الرموز والأدوات ولنفس الأغراض التي تم التصارع عليها سابقاً والعاقل والحصيف من لا يجرب المجرب ولكل زمان دولة ورجال.
إن ثقافة وتفكير الأجيال الجديدة المتعلمة تختلف عن تلك الأجيال التي نشأت ثقافتها في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات ونظرتها للأمور تختلف بشكل جوهري وليس لهؤلاء المخضرمين من ممارسي السياسة والصراعات من حق أو وصاية أو صكوك تمليك على هذا الوطن ليدخلوه في منعطفات حادة ومسالك شائكة تؤدي إلى عدم الاستقرار والاحتراب الأهلي تحت مسميات سياسية مختلفة ومقنعة لغير المتعمقين ولغير أصحاب الخبرة وتحت الادعاء لتصحيح الاخطاء التي كانوا جزءاً منها !!!
نحن نعيش في زمن الممارسة الديمقراطية ان جاز لنا القول وهم صنيع عالم القطبين والنظام الاشتراكي والراسمالي، والنظام الديمقراطي قد القى تقريبا عمليات الصراعات المسلحة للوصول إلى السلطة واحل بدلاً عنها التبادل السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع وعدم إلغاء الآخر واشراك كل فئات المجتمع في العملية الديمقراطية عبر التعددية الحزبية ومنظمات المجتمع المدني , والمعارضة هي البديل لتحقيق المكاسب عوضا عن الدبابة والطائرة والمدفع. ومن يقود أي حراك عبر منظمات المجتمع المدني هم مثقفو الامة ومتنوروها وليسوا محترفي الصراعات والمتخصصين فيها.
لااحد يستطيع ان ينكر ماعلق بالوحدة من ارهاصات وسلبيات ومظالم اشترك في التأسيس لها كلا النظامين في الشطرين قبل الوحدة ومن ضمنها الحاجز النفسي والثقافة , والعمل والاوضاع الاقتصادية للافراد وكلها مجتمعة خلقت تبايناً في الادارة والسلوك والمستويات الاقتصادية مما عكس حالة من عدم الرضى وقلق في السلم الاجتماعي حُملت الوحدة تبعاته.
فالمواطن في الشطر الشمالي وبحكم النظام الرأسمالي اشتغل في الأعمال الحرة ولم يعتمد على الدولة وكون الرأسمال الخاص به المحرك للعمل وتملك الأراضي والمشاريع بينما المواطن في الشطر الجنوبي وبسبب سياسة النظام فيه حُصر من الأعمال الحرة وتركز عمله فقط في وظائف الدولة وحُصر دخله على مايكفي اساسيات المعيشة وصودر كل شيء لصالح الدولة واصبح الامتلاك للمال والعقار محرم على المواطن واختفت مجا لات العمل والمهن الخاصة والحرة والمنافسة الا على كراسي السلطة.
وعندما تمت الوحدة رأى مواطنو الشطر الجنوبي ماكان محظور ومحجوب وممنوع عنهم لفترة تقارب الربع قرن ورفعت عنهم الاسعار المدعومة ورفع عنهم التزام الدولة بالتوظيف بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه وراو الدنيا من اوسع ابوابها لكن ايديهم كانت قصيرة بسبب انحصار عائداتهم وضيق ذات اليد الذي اورثهم اياه النظام السياسي فأورث ذلك فيهم الضيق والمهانة وقلة الحيلة والشعور بالغيره والحسد من القادمين من الشطر الشمالي والذين تخدمهم اموالهم ومهاراتهم في اختيار المفيد , وبغض النظر عن بعض التصرفات والاستقواء التي يدعمها المال الغائب لدي ابناء الشطر الجنوبي وحدوث الصراع على الاراضي والمساكن المؤممه لان الدولة في الشطر الجنوبي نزعتها من اصحابها ولم تعدها اليهم فكانت مطمع للطامعين وسلعه للسماسرة , ورجحت كفت المال والمراكز في أكثر الأوقات على مواطنين حرموا كثيراً ويأملون ان يعوضوا فترة الحرمان وتعودوا على الدولة التي توزع كل شيء وعلى الجميع ان ينتظر دوره ونسو حرية السوق وقانون العرض والطلب والمنافسة ومتطلباتها والاخلاقيات المرافقه له, فدخلوا سوق لايمتلكون ادواته ولا خبراته ويجهلون اخلاقياته التي انقطعوا عنها لفترة طويله.
وبسبب عدد موظفي الدولتين المتحدتين الذين يفوق عددهم قدرة دوله صغيره وفقيرة على استيعابهم في حدود الجدوى والحاجة خاصة ان إعداد الموظفين من الشطر الجنوبي متضخم جداً نظراً لطبيعة النظام السياسي الذي كان فيه والذي ألقى القطاع الخاص وحطم وشتت بالرأس المال المحلي وقضى على المهن والحرف الخاصة ليصبح كل العمل والوظائف لدى الدولة فقط وهذه كانت احد الأسباب المهمة للاحتقانات والصراعات التي كانت تحدث من وقت إلى آخر في الشطر الجنوبي . ولان الدولة الوليدة انتهجت النظام الرأسمالي المناظر لما في الشطر الشمالي والمغاير لما كان في الشطر الجنوبي فان ذلك قد حتم الاعتماد أكثر على الكوادر المؤهلة على النمط الرأسمالي تماماً مثل ما حدث في ألمانيا فاحدث ذلك تفضيل في الخيارات وحملت الدولة عبئ فائض الموظفين كالتزام أدبي لا تستطيع التنصل منه وضل العديد منهم يستلمون رواتبهم دون ان يمارسوا أي عمل أيضاً تماماً كما حدث في ألمانيا لان الإعداد اكبر من الحاجة بكثير هذه الأمور أثارت الكثير من الشكوى والتساؤلات من وجهة نظر هؤلاء الموظفين وليس لهذا الواقع الا جواب واحد الا من أراد توظيف الأمر سياسيا فانه يطرح أجوبه أخرى ليست واقعيه إلا انه يدغدغ بها مشاعر المعنيين بحيث يبدو الأمر بأعينهم وكأنه مقصود لكونهم من الشطر الجنوبي , مع عدم نكران المحسوبيات والعلاقات والفساد في العلاقات الإنسانية والتي لا تمثل سياسة مرسومه او مقصوده ولا يخلو منها أي مجتمع ولكن معناها يختلف باختلاف الزاوية التي تنظر منها اليها .
وهناك العديد من القضايا التي أسهمت في استعداء الوحدة كمتهم رمى عليه المتنصلون من مسؤلياتهم أوزار وعيوب الأنظمة السابقة التي كانوا جزء منها والتي تراكم بسببها الإرث السيئ والمكدس من الإدارة الفاسدة التي أفرزتها وفرضتها الولاءت وطبيعة الصراعات التي كانت تدور قبل الوحدة ولم تفرضها الكفائة والنزاهة والقدرة العلمية والمهنية في الشطرين .
أناشد الشباب في كل اليمن وفي المحافظات الجنوبية والشرقية على وجه الخصوص ان ينصفوا الوحدة مما هي متهمة فيه وان يدافعوا عنها بالعقل اولاً والعقل ثانيا . . .وان يوجهوا أصابع الاتهام إلى المتهمين الحقيقيين الذين أساءوا إلى الوحدة إلى الذين بذروا البذور للضغينة والكراهية بين الشعب الواحد بوضعهم مصالحهم الذاتية فوق كل اعتبار وماتت مشاعرهم وضمائرهم وإنسانيتهم فكما انه ليس بعد الوصول إلى القمة إلا الهبوط إلى القاع , فليس بعد الوحدة الا ما بعدها .
*عضو مجلس الشورى