فاروق مقبل الكمالي
يطل البيض من خلف شاشات التلفزيون حيث تفصلنا عنه آلاف الأميال مكانياً وينفصل هو عن اليمن شعبا وأرضا وواقعا عشرات السنوات , البيض مصراً عن الحديث من تلك اللحظة التي استدار منها هرباً بحياته نافذا بجلده مع كومة من مال الشعب المنهوب تقارب المليار دولار فما زال الرجل واقفا هناك غير مستعد للتصديق بالمطلق بأن ما يتحدث عنه اليوم لم يعد موجودا منذ 16 سنة ولت , مسكين البيض فهو مابرح طوال تلك السنوات يلتفت يمينا فيجد إلى مقربة منه احمد الحسني ممثلاً عيار 18 لم يعد لدى أحد في السوق رغبة في تداوله ويلتفت يساراً فيخيل إليه أنه يلمح حيدر العطاس مهندس مشروعاته الحضارية التي بدأت بالتخلص من أفضل البدائل المتاحة داخل الحزب والتي كانت على مقربة من الجميع ظناً منه أن "أشطر" واحد في النخب الشمالية ستنطلي عليه الصورة المزيفة وأنه بات يؤمن بكون العطاس والبيض ومن إلى نفس الدرب ليسوا أكثر من مشروع حضاري مسالم لا يؤمن بكاتم الصوت وليست له معرفة بالكواليس الخلفية للمسرح الذي يصفق فيه مجموعة من الأميين ولديهم حق فللحظة من الزمن كان البيض والعطاس وجهان لرمز واحد للقيادة المدنية التي غسلت قلوبها أحداث عسكرية جسام ,ولم يشك أحد في صنعاء وتعز والحديدة وأب وعمران وصعدة وذمار أن خلف رابطة العنق أعناق وحوش ومصاصو دماء .
لكنه يلتفت أمامه فيجد العطاس متناقضا حتى مع رابطة العنق التي يرتديها فيعاود الالتفات نحو اليسار فيجد بن فريد مناضلا نجا بجلده حفاظا على إيمانه .. يسمعه يتحدث عن المعاملة الإنسانية ويقول إن النظام بصنعاء لا يتعامل مع المواطن اليمني في الجنوب بإنسانية , يأتي مصطلح إنسانية جديد على سمع البيض فيهز رأسه ويطل من خلف شاشة التلفزيون يتحدث ويبدأ المصطلح بفرض نفسه مرة وعشر وخمسين ومائة مرة كمن يريد القول "أنا كنت هناك قبل لحظات" ,ولكنه لا يستطيع الاستشهاد بواحدة من أبرز المشاهد الإنسانية " قوارير كولا " وربما بن فريد لم يخبره أنه وهو المتهم بالتحريض ضد الوحدة الوطنية من وحوش صنعاء كانوا إذا جف حلقه ونشف ريقه ناولوه الماء المبرد امتثالا لقول رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام ولكم في كل كبد رطب أجر "بعيداً عن حكاية البغية والكلب العاطش.
"التصالح والتسامح " البداية كانت من هناك مسرحية كبيرة ليس لها جمهور فالجمهور بكامله على خشبة المسرح يمثل ويثمل ويصفق لنفسه , هناك بعيدا كان البيض والعطاس والحسني والحالمي وشطارة وعسكر ومثنى وووو ثلاثون إلى أربعين نفر يستمعون , بدأ الأمر ممتعا فكم سيكون رائعاً لديهم أن يحظوا بالمسامحة مما عليهم من جرائم حرب وإبادة بحق أبناء الضالع وردفان والصبيحة وكرش والشريجة ويافع وشبوة وأبين.. بكل بساطة بعد كل هذه المدة ومرة أخرى يعودون إلى الظهور علنا يتحدثون كمناضلين برتبة برميل الشريجة .
لكنهم المستمعين قرروا فجأة أن الوقت قد حان ليقوم الممثلون في مسرحية التصالح والتسامح بتمثيل مسرحية أكبر من تأليفهم هذه المرة فكانت مسرحية " الثورة السلمية " وغدا الجميع في الضالع، في لحج ،في كرش، في ردفان، في أبين، في حبيل جبر ،في حالمين ،في قعطبة ممثل نجم وقيادي حراك متسلسل لم يتوقف عند حلاقة 7-7 جنوب وإطارات حارقة وقطع طرقات بل تجاوز ذلك باكراً بالعودة إلى مربع 13 يناير 86م في لحظة حاسمة أودت بحياة ثلاثة مواطنين لاحول لهم ولا طول ولا يفقهون حديثاً مما يقال في المسرح الحراكي أو في صنعاء ولم يكونوا قادرين حتى على القول "إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خراجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا" .
" ولكن أعفاط المسرحية الغبية لم يكتفوا بأكل الحلوى التي صنعها ثلاثتهم طوال سنوات فقرروا أن يشربوا دمائهم غدرا هكذا بكل صلف وبكل إجرام في الوقت الذي كان ثمة نفر آخرين في صنعاء يصفقون طربا للمسرحية العفنة وينتظرون المغاوير على أعتاب باب اليمن في صنعاء القديمة .
يوماً ما إستيقظت عند منتصف الليل كنت في الرابعة أو الخامسة لست أتذكر ولكني أتذكر أنني لم أكن قد التحقت بالمدرسة حينها ومازلت صغيرا خرجت من فراشي في المنزل الذي كانت جدرانه تهتز وإذا بعشرات الأوجه تحدق نحوي كان أبي وأصدقائه- وجوه مازلت أتذكر ملامحها حتى اليوم وأغلبهم على قيد الحياة الآن أطال الله بأعمارهم ورحم من قبض منهم- كان جميعهم متربعين في درجات البيت القديم الذي فتح بابه من هول الإنفجارات التي كانت تدوي حينها وسط تلك القرية المتواضعة في ريف شرعب كانت تلك الليلة تبعث الأمن على نحو مذهل ولم أكن أدري ماذا كان يعني ذلك لكني لاحقا أدركت كل شيء وأدركت طبيعة تلك الليلة التي لا يمكن أن تزول من ذاكرتي مهما ضعفت حينها أخذني أبي في حضنه ومعهم رحت أشاهد النيران الكثيفة التي كانت تضيء السماء والطرقات وبين المنازل وكان القصف يلعلع والمنزل يرتج ونحن أكثر شعورا بالأمان فقد كانت تلك الليلة آخر ليلة في تاريخ حروب المناطق الوسطى والعمليات التخريبية التي حرمت تلك المناطق من كل شيء حتى الآن لست أتذكر شيئاً بعدها سوى تلك الأشجار التي سحقت وبعض أركان المنازل وأتذكر بقايا الرصاص والقذائف المختلفة الخفيفة والثقيلة وقذائف الهون الفارغة التي رحنا صغارا نجمعها الصباح التالي ونلعب بها بكل براءة الأطفال .
بالتأكيد ثمة في قعطبة وفي كرش وفي ردفان وفي الضالع وفي الصبيحة من يتذكر أشد الأمور مما تسجله ذاكرتهم من جرائم الحسني والعطاس والبيض ومثنى وطماح وباعوم والنوبة ومسدوس فهؤلاء جميعا لم تحولهم صنعاء منذ جاءوا إليها إلى بشر أسوياء إلا بالقدر الذي كان ذلك يحقق مصالحهم قبل أن يفقدوها وهؤلاء لم يكونوا يوما المشروع الحضاري لليمن الواحد إلا بالقدر الذي يتيح لهم فرصة للذوبان في مجتمع ريفي لم يفقه الكثير من الأمور بعد لكن الذئاب تبقى ذئاباً وإن بدت مثل الكلاب