أشرنا في الحلقة السابقة إلى قرار رئاسة الأركان العامة إلى مواقع "نقم والحفاء" بضرب موقع الجرداء رغم أنه كان يساعد أبطال الثورة إذا ما تعرضوا للهجوم إلا أن صدور مثل ذلك القرار جاء عقب وصول معلومات عن تواطؤ المتواجدين في الجرداء مع الملكيين. . . هنا يقول المؤلف: بذلك العمل سادني شعور بأن قد أديت الواجب الموكل إلي والذي خرجت من أجلة والذي أستمر ما يزيد عن ثلاثة أسابيع بينما لا يزال عليها دون قصف المدفعية المعادية على قرية الجرداء مستمراً حيث ركز الأعداء عليها دون انقطاع ليلاً أو نهاراً مع تكرار المحاولات الهادفة للهجوم عليها وإسقاطها ولكن كان مصير كل تلك المحاولات الفشل التام نتيجة لإصرار المدافعين عنها بالرغم من قلة أعدادهم حيث لم يتجاوزوا الثلاثين فرداً مع تدني الإمكانيات بما في ذلك جوانب متعلقة بالتموين والإمداد.
من الشعور باليأس إلى التفاؤل بالنصر
بعد الانتهاء من المهمة في الجرداء كانت عودتي إلى المكان الذي انطلقت منه وهو الإذاعة، وفي تلك الأثناء لم تكن قد ظهرت في الأفق أي بوادر انفراج لإنهاء الحصار والقصف المدفعي على العاصمة من قبل المغرر بهم ومعهم المرتزقة وفلول النظام الإمامي، ومع تزايد القصف والحصار زاد معهما قلة الموطنين الذين يتعرضون مع كل يوم جديد للإرهاب والرعب من جراء تلك الأساليب غير الإنسانية التي أتبعها أعداء الثورة والجمهورية في قصف أحياء العاصمة وسكانها من أطفال ونساء وشيوخ يستقبلون تلك القذائف التي دمرت منازلهم وأحدثت العديد من القتلى والجرحى في صفوفهم.
كل ذلك ساهم في زعزعة ثقة العديد من الزملاء وبصورة لا تختلف عن بداية الحصار وكان البعض في حالة شديدة من الإرهاق لكثرة المهمات والخدمات الليلية والنهارية على الإذاعة، إضافة إلى التناوب المستمر في المواقع المحددة في نقم خاصة عند ما كانت تصل معلومات بأن العدو يهدف إلى القيام بهجوم على مواقعنا في نقم كل ذلك.
بالإضافة إلى استمرار القصف على الإذاعة واستمرار الحصار وضرب المنشآت الحيوية من عدة اتجاهات،وبالرغم من ذلك العدد المحدود لمجموعتنا التي كلفت بالحراسة في الإذاعة إلا أنه كان يسود اعتقاد بأنه لا بد من أن يوجد شعاع من الأمل يؤدي للانفراج.
وبمجرد وصولي الإذاعة إذا ببقية الزملاء يتلهفون لسماع أخبار جديدة، إن أعداء الثورة في حالة من التدهور والانهيار المستمر وإن قتالهم يعتمد على رغبة مؤقتة تتغير من وقت لآخر وفقاً لما يقدم لهم من مال وسلاح.
وبنهاية تلك الأموال يتلاشى الحماس في القتال بالإضافة إلى عدم تنظيم تجمعاتهم خاصة في المواقع التي لا يتواجد بها مجاميع من المرتزقة الأجانب من ذوي الخبرات القتالية والأكثر من ذلك كله أنهم لا يملكون عقيدة أو هدفاً يقاتلون من أجله حيث أن كل هجوم يقومون بتنفيذه كان يعتمد على حجم المال الذي يقدم لهم وكان ذلك واضحاً لمسته أثناء معايشتي للأحداث وأنا في الجرداء إذ وصل بهم الأمر إلى تكوين ما يسمى بفرق الغزاة وكل فرقة تنتمي إلى قبيلة محددة.
وكان ذلك نتيجة للتدهور المتلاحق في أعدادهم وتنظيمهم وإحساسهم بالفشل وافتقارهم للحد الأدنى من التنسيق فلم يكونوا يرتبطون بمسؤولية محددة خلال الهجمات التي كانوا يقومون بها وذلك فإن فرق ومجاميع الغزاة تلك لا يمكن إلا أن يطلق عليها فرق ومجاميع مأجورة تعمل وفقاً لما قدم لها من مال وعتاد.
ولكون المشاركة لتلك القوى في أي هجوم لم يكن مرتبطاً بأي جزاء أو عقاب لمن يشارك فيها من الأفراد والمجاميع المغرر بهم.
الأمر الذي أدى إلى تشكيل وتكوين تلك المجاميع وفي اليوم الثاني أو الثالث على عودتي إلى الإذاعة كنت مكلفاً بخدمة ومراقبة خلال ساعات النهار وحدث قصف في ذلك اليوم من الساعة السابعة صباحاً وأستمر أكثر من ساعة ونصف، وقد نتج عن ذلك أحد الزملاء مكلفاً بحراسة البوابة الخارجية وتعرض مكان تواجده من ضرب المدفعية التي كانت تقصف مبنى الإذاعة فتحطمت تلك الصندقة وتحولت إلى أجزاء متناثرة بعد دقائق وضحت الرؤيا وزال الغبار الناتج عن تلك القذيفة ليظهر الزميل وهو يتلفت يميناً وشمالاً وبعد قليل توجه عكس اتجاه المبنى الخاص بالإذاعة مسرعاً في اتجاه السفارة الروسية حالياً وكنت حينها أناديه بصوت مرتفع ولكنه لم يجبني وأتضح أنه كان فاقد الوعي جراء ما حدث له فقد نجا بإعجوبة وعدم إصابته بأي أذى من المعجزات وفي تلك الإثناء كانت القذائف ما تزال تنهال.