د.يوسف مكي
قبل الحديث عن "الانسداد التاريخي" الذي أصبح سمة ملازمة لمسيرة النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، نجد لزاما علينا، أن نعود لمتابعة الطريقة التي اعتمدها النظام طيلة السنوات الثلاث المنصرمة، لتأجيل المواجهة الأخيرة.
اعتمدت سياسة تأجيل المواجهة بين القوى الإيرانية المتنافرة، على تصدير الأزمة للخارج، وخلق معارك "مقدسة"، تؤجج فيها المشاعر القومية والدينية والمذهبية، وتُمكن صانع القرار، من تحقيق جملة من الأهداف الرئيسة في آن واحد. كان المنجز الأول الذي حققته هذه السياسة، هو التخلص بهدوء من الرموز السياسية المعارضة، التي شاركت في الحكومة غداة الإطاحة بالشاه: بني صدر، بازرقان، سنجابي، قطب زاده... باعتبار أن هذه العناصر سوف تشكل لاحقا تحديا حقيقيا لمشروعية النظام السياسي الجديد.
أما المنجز الثاني، فيتمثل في تمكين الإمام الخميني من التخلص من الرموز الدينية، التي تنافسه فقها وعلما وحضورا، والتي يقبل بها قطاع واسع من الجمهور كمرجعيات دينية يلجأ لها، للإفتاء في أمور الدين والدنيا. وكان قسم كبير من هؤلاء قد اعتبروا ولاية الفقيه، أمرا مبتدعا، من قبل الإمام الخميني لتمكينه من الاستئثار بالسلطة. وانتهى معظمهم إما بالسجن، أو العزل أو فرض الإقامة الجبرية، وتوفي معظمهم في ظروف صعبة. واعتكف آخرون، ممتنعين عن المشاركة في الحياة العامة، وبقي آخرون يتحينون فرصة الظهور مرة أخرى، وخلال هذه الأزمة، عاودوا ممارسة أنشطتهم.
إضافة إلى ذلك، كانت القوى السياسية المدنية، كحزب توده، وحركة تحرير إيران ومجاهدي خلق، والجبهة الوطنية الإيرانية، في وضع لا تحسد عليه هي الأخرى، في ظل اتساع الصراع مع الخارج، وإعلان حالة الطوارئ. لقد تم احتواء تلك القوى، وكممت أفواهها، ومنعت من الإفصاح عن برامجها السياسية، تحت ذريعة وجود مخاطر كبرى، تستدعي التفاف الجميع من أجل التصدي لها. وتعرضت قيادات تلك القوى للتصفية الجسدية والسجون، أو القبول بالعيش مرة أخرى، بالمنافي، كما هو الحال في عهد الشاه.
ومن جهة أخرى، كان لسياسة تصدير الأزمة، دور كبير، في تحشيد الجمهور خلف النظام الجديد. وخلال المواجهة، لم يكن هناك مجال، أو متسع من الوقت للمطالبة بالحقوق الأساسية، من صحة وتعليم وكهرباء وتأمين سكن، أو فسحة للحديث عن التنمية، وإعادة بناء هياكل الدولة، بما يلبي الحاجات الأساسية للناس العاديين. فقد كان كل شيء مكرسا للحرب المقدسة ضد الأعداء.
ومن خلال هذه السياسية أيضا، تم تفكيك هياكل الدولة التي كانت قائمة إبان حكم الشاه، بما في ذلك مؤسسة الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات، وإعادة تشكيلها من أعوان النظام، والمؤيدين لسياساته. كما أسهمت تلك السياسة في صياغة عقل جمعي، وبشكل خاص في أوساط الطبقات الدنيا، بما يتسق مع رؤية المؤسسة الدينية التقليدية.
وكانت الصراعات والحروب مع الخارج، موجهة للداخل، أكثر مما هي موجهة لخارج الحدود، وهي وجه آخر، للصراعات التي تغلي في إيران، بعد إعلان فوز أحمدي نجاد بمقعد الرئاسة. وهي كما أوضحنا ليست لها علاقة بمواقف عقائدية أو أيديولوجية، قدر علاقتها بمحاولة تحقيق التفاف شعبي حول مشروع الجمهورية الإسلامية.
لم يذهب أية الله الخميني بعيدا حين وصف شعار "تسقط أمريكا" في أحد خطبه بأنه أقوى من أسلحة الدمار الشامل، فهذا الشعار الذي وحد حناجر الإيرانيين، هو الذي مكن النظام من إحكام قبضته السياسية، وتنفيذ مشاريعه في إقصاء المعارضة، وتأمين استمرارية النظام. بمعنى آخر، كانت الشعارات العقائدية والثورية ملحقا، وفي خدمة سياسات برجماتية، وكانت الأرجحية دائما لتلك المواقف. وقد حكمت تلك السياسات سلوك الإمام الخميني ونظامه، منذ البداية حتى يومنا هذا.
في هذا المضمار، لن تكون مهمتنا شاقة للتدليل على ذلك، فالحوادث كثيرة ومتعددة، وتصدم المراقب بالشؤون الإيرانية، حيثما اتجه. بل إن هذا المنحى، صاحب الإمام الخميني في منفاه. لم تمنعه شعارات الثورة، التي حرض عليها، وانتشرت كالنار في الهشيم بالمدن الإيرانية الكبرى، منددة بالشيطان الأكبر، من التنسيق مع الأمريكيين، لاستلام السلطة، بعد رحيل الشاه. ووثائق اللقاءات التي تمت بينه وممثليه وبين الأمريكيين أصبحت متوفرة لمن له سمع أو بصر. كما أن التنسيق بين الرئيس الأمريكي الجمهوري، المنتخب في بداية الثمانينات، ريجان وبين الإيرانيين، بوساطة جزائرية، لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين، بعد إعلان الفوز وليس قبله، لتفويت الفرصة على إمكانية نجاح الديمقراطي، الرئيس كارتر، هي الأخرى متوفرة. وفي كلا الحالتين كان الأمر فاضحا.
ليس ذلك فحسب، بل إن الإيرانيين نسقوا مع الأمريكيين أثناء الحرب العراقية- الإيرانية. وكان الأمريكيون قد انتهجوا سياسة إطالة أمد الحرب بين الطرفين المتحاربين، دون تمكين أي منهما من تحقيق نصر حاسم. وقد عملت تلك السياسة على ترجيح كفة الطرف الأضعف في الجبهة، حتى إذا اتضح رجحان كفته، عادت لمعاونة الطرف الآخر. وانطلاقا من هذه السياسة، نسق الإيرانيون مع الأمريكيين، لضمان مواصلة الحرب، رغم صدور قرارات عديدة من مجلس الأمن، بعد أسابيع قليلة من إعلان الحرب تطالب بوقف إطلاق النار.
في مراحل لاحقة، بلغت برجماتية النظام حدا لا يمكن تصوره، حين أعلن عن فضيحة إيران جيت، حيث تسلمت إيران ما تنوف قيمته على الخمسة مليارات دولار من الأسلحة الأمريكية، بوساطة إسرائيلية. وكان بطل تلك الصفقة، ضابط أمريكي، عرف بتوجهاته اليمينية، وتعصبه القومي، يدعى أوليفر نورث. واعتبرت تلك الصفقة فضيحة كبرى، وجرت محاكمات علنية، نقلتها شاشات التلفاز وأجهزة الإعلام، لكن ليس في إيران بل في الولايات المتحدة. وحكم على المتهمين بالسجن وبالغرامات المالية، وأعلن عن انتحار أحد مستشاري الرئيس ريجان، بسبب هذه الفضيحة.
نقلاً عن «إيلاف- السعودية»