شكري عبدالغني الزعيتري
قائلا : أنادي اليوم ومن الروضة في قبري وأحدثكم يا أحرار من بعدي انه كان في زماني الأول قبل زمانكم ثمن الحرية اكبر مما تقدموه اليوم إذ كان الثمن من كل أصناف العذاب للأجساد ولكل حر كلمة وقلم . وأقول لكم نصحا يا أحرار اليوم . واخص به حر القلم . لا ضيق من السجان إن أغلق الأبواب أمام حرية رأي أو بعث الشلل أمام حرية فكر أو جفف حبر الأقلام ولا ضير أن سجن الأجساد الحرة .. ولا مخافة من السوط والجلاد إن أدموا الأجسام .. ولا فزع من زناد البندقية إن أطلقت أعيرة الرصاص إلى صدور حرة ممتلئة بنور الإيمان والحرية ( صدور البعض منكم ) ... وأقول لكم إن الحرية ثمنها غالي القيمة فقد كنا قبلكم دافعين ما انتم اليوم له باذلين وما أراه إلا القليل من كثير بذلناه قبلكم فانا احد شهداء القلم والكلمة الأحرار من جيل إبائكم والأجداد أقول لكم كنا في زماننا قبل الممات عرضة لكل عذاب . فقد عذبني السجان بان كانت بداية قصتي معه أن شوه وجهي وشقق ظهري بالجراح ولأعقاب سجائره جعل البطن مطفأة للرماد وكان يوثق يداي والرجلان بالسلاسل والحبال ويشدني لأكون لصيقا للجدران وكل يوم جديد في نفس العذاب ويزيده بأصناف أصناف وكان بين الحين والآخر في كل ليلة بالماء البارد المملوح يصبه علي بدني المشقق بالجروح في كل مكان لإشعال لهيب كلسعات النار ولإيقاظي من نوم وسبات وحتى لا تهدى كل خلية وتنام فيصل بي إلي الجنون فلا ادري من أنا ومن أكون . هكذا استمر حتى تهاوى الجسد ونحل ولم يبقى منه سوى الجلد علي العظام .. وحين راني احتضر والموت كائن لا محال حزن حزنا شديدا كونه سيفتقدني بان سيكون ذاك اليوم يوم احتضاري آخر يوم اللقاء (بيننا) كمسجون يعذب وسجان معذب .حزين السجان لانه قضي وقته يتسلي بجسدي الحر وكأنه ينتقم لأني امتلكت الحرية ولأنه يري نفسه عبدا ناقصا تابع للسلطان . حزين السجان لان الأيام مرت وأنا أؤنسه فخلالها كان يلاعبني ولشهران من الزمان وكان فيها يتلذذ طيلة (تسعة وخمسون من ليل ونهار) بلا زيادة ولا نقصان واختتم التعذيب في نهار يوم الستين للشهرين أن أراق دمي بخنجر ذبح به الوريد ما بين الرقبة والرأس وخط بخنجره الحاد من اليمين إلى الشمال وبعدها اخذ يتلقي دمي يجمعه في إناء حتى نشف من كل عروقي وكل شريان .. وبعدها اخذ يخلس جلدي ليفصله عن لحمي والعظام كما تخلس الشاة يوم عيد الحجيج ليضحي بها كعبادة للواحد القهار في مكة منبع الإسلام . وحين فرغ معذبي السجان اخذ يقطع لحمي أوصال ولم يبقي الشحم علي العظام .. وبعدها تفرغ للعظام فكسر كل مفصل وساعدا وساق وكل عظيمات صدرا إلي أقسام .. وبهذا كنت قد اعتقدت بأنه انتهي بان جمع دمي في إناء وفرق بين لحمي والعظام . وإذا بي سرعان ما أري المشهد الثاني من العذاب والإعدام إذا بمعذبي السجان وكأنه يريد أن يستفيد من كل أشلائي ودون خسران ..فأتي بإناء دمي فعجن به لصنع فطيرا خبزا يقدمه هدية للسلطان يوم عيده للميلاد والذي كان نفس يوم عيد الإعدام . وحين ذهب ليلا وقدم هديته للسطان في احتفال حضرة الخمر أشكال وألوان وكل المحتفلين مع السلطان من الرجال وزيجاتهم النساء في حالة سكر ومجن لا يدري فيه الرجال من النساء (الأزواج) . تقبل السلطان هدية معذبي السجان وتبسم له شاكرا علي الإخلاص واخذ يتذوق فطير معذبي السجان وكان حسائه رشفات نبيذ خمر العنب والعناب . تتذوق السلطان فطير دمي ولا يدري مما تكون وعند أول قضمة وتبسم السلطان ضاحكا (ه.. ه .. ه ) قائلا لمعذبي السجان إمرتك ماهرة في إعداد الفطير والطعام فلماذا لم تحضرها معك لنتعرف عليها أهي حسناء وستكون كفطيرها. فضحك معذبي السجان وقال في المرة القادمة ساتي بها يا مولاي السلطان ... وأما لحمي فزاد تقطيعها من أوصال إلي أجزاء ليسهل علي كلاب السجن الهضم والابتلاع وحتى لا تتعب أنيابها والأسنان وبعدها أكرم به كلابه ليعبر لها عن حبه الولهان وحبه وإخلاصه لكل كلب من انس وحيوان.. أما عظامي فزاد تكسيرها من ألواح إلي قطع صغار ج ليسهل طحنها وخلطها بأعلاف الأغنام والأبقار لتسمن فتدر حليبها لأبناء السلطان . وحين جاء دور راسي الذي استعصى علية التقطيع أوصال . لم يكن أمامه إلا الذهاب إلي العطار واشتري منه ماء النار وجاء به فصبه في الإناء ووضع راسي فذاب ذوبان فأصبح الفص كالمخ وفي امتزاج .. وهكذا أخفاني حتى عن قبرا يعرف وحتى لا يدري أهلي أين مكان تواجدي ومن أخفاني ومن قتلني وأين دفنت جثتي . لان معذبي السجان أخذني إلي سجنه دون علما لاحدا سواه والسلطان اختطفني حين كنت أسير في أزقة أحياء مدينتي عائدا إلي منزلي احمل في يدي اليمني فاكهة (البطيخ) لأطفالي وفي يدي اليسري وردة بيضاء لزوجتي تنفح برائحة من العطري . ولكن السجان اختطفني وذهب بي إلي سجنه وقطعني لأكون بدلا عن تقطيع زوجتي البطيخ لأطفالي .. ومزقني وفتتني بدلا أن يمزق مرور الأيام و المناخ وردتي البيضاء فيفتت أوراقها . فقد كان ذاك اليوم يوم الذبح والتقطيع آخر يوم اللقاء بمعذبي السجان . أول يوم اللقاء بربي وأول يوم عرسي الذي فرحه كائن ومازال ولا زوال فحين كان السجان يقطعني أوصال كان يقام لي يوم عرسي . فربي الله الخالق و من أمر الكون أن قال له در فدار بقدرته جمع أشلائي بان تلملم عظمي والتأم لحم جسمي واجتمع دمي يجري في العروق يوم عرسي بأمر رب العباد ومن يقول للشئ كن فيكون لأدخل رياض الجنان .. وها أنا اليوم أعيش في روضة من رياض الجنان وأنادي منها كل الأحرار من أجيال بعدي .. بالقول لكم لا تجزعوا ولا تخافوا يا من بعدي يا أجيال أبنائي وأحفادي وكونوا أحرارا ولا تبالوا فالموت أتي .. أتي .. آتي ولكن شتان بين من مات على الفراش ومن مات في جهاد ونضال . وشتان بين من يقام له عرسا يوم مماته وبين من يحفر له قبرا ليدفن تحت التراب (قلا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون ) (سورة البقرة ) . فاحرصوا أن تجعلوا من موتكم الأتي نصرا لأنفسكم وعرسا بعد الممات ..
واعلموا بان لكل شي ثمن .. وقيمة الإيمان والحرية أغلي وأعظم .
s_hz208@hotmail.com