أسامة عبد الرحمن
بلغ الأمر ببعض الكتاب العرب إلى حد المجاهرة بطي قضية فلسطين وتسجيلها ضد مجهول. ومثل هذا الطرح يعادي القضية وأصحاب القضية الصابرين والصامدين والمرابطين والمقاومين آليات البطش الصهيوني الجائرة بدعم أمريكي غير مسبوق في نوعه وحجمه، وهم في الوقت نفسه يواجهون صمتاً عربياً وتخاذلاً وتقاعساً في آن.
مثل هذا الطرح هو طعن في الصميم لمشاعر هؤلاء وتضحياتهم الجمة، وهو قبل ذلك وبعده مناقض للوجدان العربي، ومناقض كذلك لكل معاني الحرية والكرامة والسيادة ولحركات الشعوب عبر التاريخ في سعيها نحو هذه الأهداف. ثم كيف تطوى القضية وهي حاضرة بكل فئاتها، وكيف تسجل ضد مجهول والمعتدي ليس مجهولاً، وعدوانه ليس مجهولاً، واستمراره في انتهاك الحقوق وارتكاب المجازر ليس مجهولاً؟
مثل هذا الطرح يخرج عن أي سياق فيه نبض من الشعور العربي، والضمير العربي، والوجدان العربي، وليس هناك ما يبرره. قد يقول قائل إن القضية الفلسطينية ظلت ردحاً طويلاً من الزمن من دون حل، وإن الفلسطينيين عانوا ويلاتها، وتجرعوا مرارتها ومازالوا يعانون ويقاسون أعتى أنواع البطش والجبروت، وإنه مهما كانت هناك مقاومة فلسطينية فإن هذه المقاومة قد تجني على الفلسطينيين ويلات أكثر مما تجني على الصهاينة، وهم يدفعون الضريبة الأكبر ويقدمون التضحيات الأكبر.
ربما يذهب البعض إلى القول إن القضية الفلسطينية تآكلت بمرور العقود، وتآكل الموقف العربي برمته، بدءاً من رفض قرار التقسيم، وقد كان يعطيهم من الحقوق أكبر مما تطرحه خارطة الطريق أو غيرها. ثم أصبح الأمر فلسطينياً وعربياً مركزاً على الحقوق ما قبل يونيو 1967.. ثم دخلت المفاوضات الفلسطينية في نفق ردهات لا تفضي إلى شيء، ويكاد الكيان الصهيوني يرفض حتى ما هو أقل من خارطة الطريق مع أنها أمريكية الطرح وصهيونية المنظور والهدف.
كل ذلك لا يبرر طي القضية ناهيك عن تسجيلها ضد مجهول، وهو العدو الصهيوني الذي يعربد يومياً على الساحة الفلسطينية بآلياته الباطشة القامعة المنكلة بالشعب الفلسطيني، وهو العدو الذي يستعرض قوته على الوطن العربي برمته ويبرهن لهم قدرته على فرض الإرادة وفرض الوجود، والعالم العربي مدرك ذلك ويستسلم لواقعه كأنه لا يملك أن يفعل ازاء ذلك شيئاً، بل لا يستطيع أن يقدم حتى العون الإنساني وليس العون العسكري للمرابطين والصامدين والصابرين والمقاومين على الساحة الفلسطينية.
إن المنظور السياسي عادة ما يكون رهين اللحظة، وأسير واقعه الراهن، أما المنظور التاريخي فهو أوسع أفقاً وأبعد مدى.
صحيح أن الواقع العربي برمته تراجع أمام الكيان الصهيوني من تمسك بحق الشعب الفلسطيني على كامل ترابه الوطني إلى القبول بما هو أقل من ذلك بكثير، والمواجهة العربية مع الكيان الصهيوني تآكلت تماماً، وتلاشت تماماً، وتم الدخول في مآزق السلم ومزالقه.
ومعروف أن الهزيمة النفسية، أشد وطأة من الهزيمة العسكرية، وهي التي يبدو أنها غلبت على الساحة العربية في الوقت الذي أصبح الخطاب الرسمي العربي يجهر بأن المواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني قد انتهت لأنها لم تجر على العرب إلا النكبات، وأنه ليس في الإمكان مواجهة هذا العدو الشرس المترسن بآليات عسكرية متطورة تقنياً تفوق قدرتها ما لدى الأقطار العربية مجتمعة من إمكانات عسكرية رغم استمرار البذخ الكبير أحياناً في الإنفاق على هذه الإمكانات العسكرية. والمواطن العربي غلب عليه إلى حد كبير مثل هذا الشعور، وإن كانت مشاعره وضميره ووجدانه معلقة بالقضية ومتعاطفة معها بما يملك من وسائل التعبير المتاحة، وهي قد تضيق عليه في أكثر الأحيان وتمنعه حتى من إبداء التعاطف في مظاهرة سلمية تقدم لأصحاب الحق الفلسطيني شحذاً وسنداً معنويين.
عود على بدء، فإن أي طرح يقبل بأي حل، حتى لو جاء حسن النية ومن باب العطف على الشعب الفلسطيني الذي قدم كثيراً وضحى كثيراً، وأنه من الأحرى أن يستريح من العنت والشقاء ولو كان ذلك في إطار حل لا يقدم حتى أقل من الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، هو طرح لا يحقق حتى الهدف الذي يرمي إليه. إذ العنت والشقاء والتضحيات ستظل مستمرة من قبل عدو يتجاوز كل القوانين والأعراف الدولية، ولا يقيم لها وزناً مستنداً إلى قوة السند الأمريكي.