بقلم: عبد الباري عطوان
أستغرب كل هذه الضجة المثارة حالياً في بريطانيا وامريكا حول افراج السلطات الاسكتلندية عن السيد عبد الباسط المقرحي المدان في عملية تفجير طائرة ال'بان ام' الامريكية فوق مقاطعة لوكربي الاسكتلندية ومقتل 270 شخصاً. واستغرب اكثر تصريحات المتحدث الرسمي باسم البيت الابيض التي وصف فيها عملية الافراج هذه بأنها 'مقززة'.
التقيت شخصياً بالسيد المقرحي قبل عام عندما زرته في سجنه في غلاسكو بصحبة محاميه العربي سعد جبار، وقضيت معه ثلاث ساعات، ووجدت نفسي امام رجل يشعر بغيظ شديد، ليس لأنه في سجن اسكتلندي بارد في اقصى شمال المعمورة، وانما لشعوره المتأجج بالظلم. وقال لي بالحرف الواحد 'لو انني فعلتها لقلت ذلك علانية وقتلت نفسي من شدة تأنيب الضمير'. وانفجر باكياً، وهو الرجل الصلب في كبريائه وعزة نفسه.
السيد المقرحي عرض عليّ ملف الادعاء العام الذي جرى تقديمه الى هيئة القضاة في المحكمة الاسكتلندية التي ادانته، وكان مليئاً بفقرات، بل بصفحات جرى طليها بالحبر الأسود لأخفاء أسرار ومعلومات تحت ذريعة 'حماية الامن القومي الامريكي والبريطاني' وبهدف تضليل القضاء بطريقة متعمدة.
الأهم من ذلك ان رجل الاعمال السويسري الذي قدم شهادة للمحكمة عن بيعه صواعق لليبيا، إستُخدم أحدها في عملية التفجير، تراجع عنها، وتحدث عن ضغوط كبيرة تعرض لها للإدلاء بمثل هذه الشهادة مقابل مغريات مالية عديدة.
الافراج عن الرجل جاء لأسباب انسانية، وبعد ان تم التأكد من مختلف الجهات الطبية المتخصصة انه لن يعيش اكثر من ثلاثة اشهر بعد انتشار السرطان في جسده، اي انه لن يعيش طويلاً كي يتمكن من التخطيط لتنفيذ عملية لوكربي اخرى! فلماذا كل هذه الضجة، ولماذا هذا التباكي المفضوح من قبل بعض المسؤولين الامريكيين عن العدالة والتلويح بفرض مقاطعة ضد اسكتلندا وبضائعها؟
' ' '
أنا لا أشك مطلقاً بعدالة القضاء الاسكتلندي او البريطاني، ولكني اشك قطعاً بأجهزة المخابرات الامريكية والبريطانية التي قدمت الأدلة التي استند اليها القضاء في أحكامه هذه، مثلما اشكّ بالسياسيين والمسؤولين في البلدين لمعرفتي بقدرتهم على التزوير بما يخدم اهدافهم الشريرة في بعض الأحيان، من خلال عيشي في الغرب لأكثر من ثلاثين عاماً.
اذهب الى ما هو ابعد من ذلك وأقول إن هؤلاء المسؤولين، واجهزتهم الذين 'فبركوا' الأدلة والبراهين حول امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل لتبرير غزوهم واحتلالهم له لأسباب نفطية، من غير المستبعد ان يفبركوا ادلة وبراهين حول تورط المقرحي وليبيا في عملية تفجير لوكربي هذه، وللأسباب نفسها، علاوة على كراهية بعضهم للعرب والمسلمين.
كتب امريكية صدرت مؤخراً اكدت ان توني بلير رئيس وزراء بريطانيا في حينها اتفق مع نظيره الامريكي جورج بوش على تحديد موعد شن الحرب على العراق بعد ان تأكدا بأن العراق خال من هذه الأسلحة، واستعجلا العدوان لقطع الطريق على المفتشين الدوليين، والحيلولة دون وصولهم لاكتشاف هذه الحقيقة. وما زلنا نذكر 'صراخ' بلير امام البرلمان البريطاني وتلويحه 'بدوسيه' الاسلحة العراقية هذه وتأكيده ان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يستطيع اعدادها لضرب بريطانيا ودول أوروبية أخرى في اقل من خمس وأربعين دقيقة.
مقتل 270 شخصاً في لوكربي جريمة بشعة يستحق كل من اقدم عليها، او وقف خلفها العقاب، بغض النظر عن هويته او جنسيته، ولكن ماذا عن جريمة قتل مليوني عراقي نصفهم بسبب الحصار، والنصف الآخر جراء الغزو وتبعات الاحتلال. الا يستحق الذين اقدموا على هذه الجريمة وفبركوا الاكاذيب لشرعنتها عقاباً أشد؟ ولماذا هم طلقاء ينعمون برغد العيش ويُفرش السجاد الأحمر لاستقبالهم اينما حلوا؟
ربما يفيد تذكير اولئك الذين يعارضون الافراج عن المقرحي من البريطانيين والاسكتلنديين، بقضية الممرضتين البريطانيتين اللتين ادينتا بقتل زميلتهما الاسترالية، في الخُبر شرق المملكة العربية السعودية، وكيف ذهب رئيس الوزراء البريطاني الى الرياض من اجل الافراج عنهما وسط حملة 'ابتزاز' اعلامية بريطانية صاخبة ضد السعودية، لم تتوقف الا بعد وصولهما الى مطار هيثرو وسط استقبال جماهيري ورسمي حافل ايضا.
'الحكومة البريطانية تدخلت اكثر من مرة للافراج عن رعاياها المدانين بتهريب المخدرات في شرق آسيا وافريقيا، وقبل اسبوع فقط نجحت مساعيها في الافراج عن مواطنة بريطانية من احد السجون النيجيرية كانت تنتظر تنفيذ حكم الاعدام فيها، بعد وضع طفلها، الذي حملت فيه سفاحاً خلف القضبان من شخص 'مجهول' من اجل ان تؤجل مثولها امام حبل المشنقة؟
نعم. . .
السبب الحقيقي للإفراج عن السيد المقرحي لم يكن لدوافع انسانية فقط، وانما لصفقات تجارية ستحصل عليها الشركات البريطانية في مرحلة لاحقة.
ففي ليبيا 45 مليار برميل من الاحتياطي النفطي، وعوائد سنوية تزيد عن اربعين مليار دولار، وهي ثروة يسيل لها لعاب المسؤولين الغربيين، خاصة في زمن الانهيار الاقتصادي الحالي.
حقوق الانسان هي آخر ما يهم هذه الحكومات الغربية والمسؤولين فيها، خاصة اذا كانت متعلقة بأناس من العالم الثالث. فأين حقوق الانسان العراقي والتي انتهكتها القوات الامريكية والبريطانية، بل وشركات الامن التابعة لها مثل 'بلاكووتر' التي تبين انها كانت تقتل العراقيين وتغتصبهم بتنسيق، او بتكليف من وكالة الاستخبارات الامريكية؟